أرقام مروعة وصادمة كشف عنها تقرير جديد لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) صدر تحت عنوان "نظرة إقليمية عامة حول حالة الأمن الغذائي والتغذية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعام 2021"، حيث أشار التقرير إلى ارتفاع الجوع في العالم العربي بأكثر من 90% في غضون 20 عاما، ليبلغ عدد الجياع في المنطقة حوالي 69 مليون شخص في عام 2020.
ووفقا للتقرير كذلك، فقد عانى ما يقرب من ثلث سكان المنطقة، أي 141 مليون شخص، من انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد في عام 2020، بزيادة قدرها 10 ملايين جائع عن العام السابق، ويشير تدهور حالة الأمن الغذائي إلى أن المزيد من الناس يواجهون صعوبة في الحصول على نظام غذائي صحي، مما سيؤثر سلبا على حالتهم التغذوية، فبحسب التقرير كذلك، فإنه في عام 2020 عانى 20.5 في المائة من الأطفال دون سن الخامسة في المنطقة من التقزّم و7.8 في المائة من الهزال.
ورغم تعدد أسباب تزايد عدد الجوعى في الوطن العربي في السنوات الأخيرة ما بين النزاعات المسلحة، والتغيرات المناخية ونقص المياه، والفقر وعدم المساواة، وندرة الموارد الطبيعية، وتداعيات انتشار فيروس كورونا، إلا أن النزاعات المسلحة تشكل أحد الأسباب الرئيسية للجوع في المنطقة، حيث يواجه ما يقرب من 53.4 مليون شخص الجوع في البلدان والمناطق التي تشهد نزاعات، وهو رقم أعلى بأكثر من ستة أضعاف الرقم في البلدان التي لا تشهد نزاعات.
الأسباب الحقيقية لارتفاع نسب الجوع في الوطن العربي
هذه الصورة القاتمة التي رسمتها أرقام التقرير لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع الموارد الاقتصادية المتوافرة في معظم بلدان الوطن العربي، فمن المنطقي الإشارة إلى وقوع مواطني بعض الدول العربية تحت خط الفقر، ولكن من المستهجن تماما الفشل في مواجهة الجوع فضلاً عن تزايد أعداد الجوعى، على الرغم من كل تلك الموارد والفوائض المالية العربية المبعثرة بين المؤسسات المالية في دول العالم المتقدم.
كما لا تتناسب هذه الصورة القاتمة مع حالة الإسراف والبذخ التي تصر عليها بعض الحكومات العربية، والتي تتجاهل العمل على مواجهة التحديات التي تشير إليها التقارير الدولية والتي تهدد كل الأقطار العربية دونما استثناء وفي مقدمتها قضية المياه، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الأساسية.
من السهل تحميل النزاعات المسلحة وتداعيات فيروس كورونا مسؤولية الزيادات الكبيرة في أعداد الجوعى العرب، ولكن الحقيقة أن السبب يعود إلى تجاهل الحكومات العربية لمسببات الظاهرة، وفي مقدمتها إهمالها لزيادة إنتاجها الزراعي، وهو الأمر الذي أدى إلى أن كل بلدان الوطن العربي تقريبا ستواصل اعتمادها على الاستيراد لتوفير احتياجاتها الغذائية، حيث لا يرقى ما حققته بعض الدول من زيادات لبعض المحاصيل لسد الاحتياجات المحلية.
الدفع الحكومي بذرائع شح المياه وصحراوية الأراضي لن يعفي الحكومات العربية من المسؤولية، فإهمال توفير الموارد المالية الكافية لمراكز البحوث الزراعية، غيب دورها في أبحاث استصلاح الصحراء واستنبات البذور الملائمة، وترشيد استخدامات المياه للأغراض الزراعية، علاوة علي تحسين الإنتاجية، بما يساهم في سد الفجوة الغذائية.
كما أن تجاهل وضع سياسات زراعية رشيدة، والضغط المزري على المزارع العربي عبر تحديد أسعار منخفضة جائرة لمنتجاته، على الرغم من ارتفاع الأسعار العالمية للمحاصيل المستوردة، ودفعه نحو هجرة العمل الزراعي، تشكل عوامل مؤثرة لاستمرار عجز الميزان الغذائي في الوطن العربي، بل وللتزايد المستمر لهذا العجز.
مستقبل العالم العربي في ظل تفشي الجوع والفقر
لا تتطلب مواجهة الجوع وسوء التغذية بجميع أشكاله تأمين ما يكفي من الغذاء للبقاء على قيد الحياة فقط، فلا بدّ أن تكون الأغذية التي يتناولها السكّان، وخاصة الأطفال، مغذية أيضًا، وفي ظل قفزات أسعار الغذاء وموجات التضخم العالمي تنخفض قدرة أعداد كبيرة من الأسر العربية على تحمّل تكاليف الأنماط الغذائية الصحية، لتتسع بذلك الشرائح العربية المعرضة لسوء التغذية إلى جانب أولئك الذين يعانون بالفعل من الجوع.
ومن الجدير بالذكر أن الكثير من التقارير الدولية تشير إلى أنّ كلفة النمط الغذائي الصحي أعلى بكثير من 1.90 دولار أميركي في اليوم، وهو الرقم الذي يمثل خط الفقر الدولي، وبما يعني انضمام أعداد غفيرة من العرب إلى أمراض سوء التغذية، وهو الأمر الذي يشير إلى تفشي التقزم والهزال بالإضافة إلى قصر القامة الشديد والوزن الزائد، وكلها أمراض يتعدى تهديدها المستقبلي الجانب الصحي للمواطن العربي إلى الجانب الإنتاجي، الذي من الطبيعي أن يتأثر سلباً ليزيد من اتساع فجوة الغذاء.
الجوع في العالم العربي مسؤولية أخلاقية للجميع
تتحمل الحكومات النصيب الأكبر من مسؤولية الفقر والجوع في الوطن العربي، وهي التي فشلت في إيقاف نزف النزاعات العربية، كما فشلت في تحسين الأحوال الإنتاجية حتى في البلدان المستقرة، وحرمت المواطنين من المشاركة الفاعلة في إدارة الدول، ولم تبدِ الجدية الواجبة في مكافحة الفساد وسوء الإدارة الحكومية، ولكن ذلك لا يعني عدم تحمل الجميع لهذه المسؤولية.
يجب أن تتحمل منظمات المجتمع المدني العربية مسؤوليتها في مكافحة الجوع والفقر في العالم العربي، ويعرف الجميع حجم التحديات التي باتت تواجه هذه المنظمات لتقليص أنشطتها، بحجج الرقابة على الأموال وعدم تسربها إلى تمويل الأنشطة التخريبية، ولكن من المؤكد أن كوادر العمل المدني في العالم العربي وبما يمتلكون من خبرات متراكمة يستطيعون ابتكار الأدوات والوسائل لمواجهة تلك التحديات واستمرار جهودهم وعودتها إلى مستوياتها الطبيعة، لا سيما في ظل تحدي تزايد عدد الجوعى، وهو الهدف الذي من المؤكد عدم مقاومة الحكومات لتحدياته، خاصة إذا أمكن التنسيق مع بعض المنظمات الدولية العالمة في هذا النشاط، وحتى مع بعض الأجهزة الأمنية المحلية.
كما أن المسؤولية في مواجهة الجوع والفقر في العالم العربي لا تتوقف عند الحكومات ومنظمات العمل الأهلي بل تمتد كذلك إلى مسؤولية الأفراد، فرجال الخير والمحسنون يجب أن تقوم أموالهم بدورها في المواجهة، وتتوجب عليهم المبادرة بالبحث عن المنظمات والمشروعات العاملة في هذا الاتجاه والتأكد من وضع أموالهم بين أيدٍ أمينة وموثوق فيها، كما أن من لا يملكون المال عليهم كذلك مسؤولية أخلاقية، على الأقل في نشر القضية والتعريف بها، فالعرب جميعا سيعانون من تداعيات الجوع المستقبلية، وعليهم جميعا تقع مسؤولية مواجهته والقضاء عليه.