في نهاية العام الماضي، ظهرت قرارات اقتصادية جديدة للعلن في الجزائر، ظاهرها تحسين القدرة الشرائية للمواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية، وباطنها التغطية على الصديد الذي يملأ شرايين الاقتصاد والسوس الذي ينخر عظامه، فقد أقرَّ مجلس الوزراء الجزائري زيادات في أجور موظَّفي القطاع العام بنسبة ستصل إلى 47 بالمائة حتى نهاية عام 2024، التي تتزامن مع نهاية عهدة الرئيس عبد المجيد تبون، إضافة إلى رفع معاشات المتقاعدين ومنحة البطالة.
في الواقع، تكون الزيادات مجدية إذا واكبت معدلات التضخُّم الجامحة، ولا ينطبق هذا على الزيادة في الأجور التي من المُتوقَّع أن تتراوح ما بين 4500 دينار (32.7 دولاراً) و8500 دينار (61.9 دولاراً)، وموازاة معاشات المتقاعدين الضعيفة مع الحدّ الأدنى المضمون للأجور المُقدَّر بـ20 ألف دينار (145.7 دولاراً)، ورفع منحة البطالة من 13 ألف دينار (94.7 دولاراً) إلى 15 ألف دينار (109.2 دولارات)، نظراً لجنون كلفة المعيشة وانفلات التضخُّم وتناسل البطالة ومحدودية الإنتاجية وغياب الرقابة على الأسواق التي يعلو لهيبها على وقع أبسط الزيادات.
يُعوَّل على موازنة عام 2023 في تغطية تلك الزيادات بفضل ارتفاع عائدات النفط والغاز، التي من المُتوقَّع أن تستمرَّ في التدفُّق مع طول أمد الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تكمن الخطورة في التحسينات الظرفية أو الناتجة عن تدخُّل حكومي غير مستحبّ اقتصادياً، كانخفاض الواردات بنحو 40 بالمائة الذي انجرَّ عنه، بشكل مُتعمَّد، ارتفاع احتياطي العملات الأجنبية إلى 60 مليار دولار، حيث تشكِّل القيود المفروضة على الواردات ضغطاً لا يُحتمل على المواطنين المجبرين على اقتناء سلع ذات جودة أقلّ بأسعار مرتفعة، والمُعانين من النقص الحادّ في الأدوية الأساسية والضرورية، والمحرومين من السيارات المستوردة والمُرغمين على تدبير أمرهم من سوق السيارات المستعملة بأسعار تصل إلى ثلاثة أضعاف أو ضعفين على أقلّ تقدير.
بقيت الوعود بتحرير الاقتصاد حبراً على ورق ولم يُنفَّذ منها شيء، حيث تتذيَّل الجزائر الترتيب العربي في الحرية الاقتصادية، فقد احتلَّت المرتبة الـ13 من بين 14 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤشِّر الحرية الاقتصادية لسنة 2022، الصادر عن مؤسسة "هيريتدج فاونديشن" الأميركية، التي صنَّفت الجزائر أنّها دولة مكبوتة اقتصادياً بسبب ضعف أدائها في حماية حقوق الملكية، وصعوبة الوصول إلى الائتمان، والقيود المفروضة على الملكية الأجنبية، ومناخ الأعمال الطارد للاستثمارات الأجنبية، والتدابير الحمائية والقيود الصارمة المفروضة على الواردات وتخلُّف النظام المصرفي ومحدودية نطاقه وتأثيره.
من المُتوقَّع أيضاً أن يتمّ إدخال تعديلات على قانون النقد والقرض الذي صدر في 2003، أي منذ ما يقارب 20 عاماً، وفقاً لمخرجات اجتماع للحكومة ترأَّسه الوزير الأول أيمن بن عبد الرحمن في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2022، حيث يندرج هذا المشروع الذي طال انتظاره ضمن سلسلة الإصلاحات التي لطالما تنصَّلت منها الحكومات السابقة، وتهدف التعديلات المقترحة إلى تحديث النظام المالي وعصرنة الجهاز المصرفي، واستحداث أدوات نقدية جديدة لإدارة السيولة في الاقتصاد، ورقمنة النشاط المصرفي وتعزيز حوكمة بنك الجزائر والمنظومة المصرفية الجزائرية.
لقد رفعت هذه التعديلات المقترحة سقف الطموحات إلى مستويات أعلى ممّا يمكن تحقيقه بالنظر إلى التغيير المستمرّ للمسؤول الذي يشغل مهام محافظ البنك المركزي، فقد تمَّ إنهاء مهام محافظ البنك رستم فاضلي، وتعيين صلاح الدين طالب خلفاً له في 23 مايو/ أيّار 2022، علماً أنّه قد تمَّ تعيين فاضلي في هذا المنصب الحسّاس في سبتمبر/ أيلول 2020 خلفاً للوزير الأول الحالي أيمن بن عبد الرحمن، وبطبيعة الحال، تؤثِّر هذه التغييرات المستمرّة سلباً على استقرار هذه المؤسسة الحسّاسة وتقوِّض التنفيذ الفعّال للإصلاحات المرجوة.
إضافة إلى ضرورة إيلاء مسؤولية قيادة بنك الجزائر (البنك المركزي) إلى شخصية قيادية وقويّة لمدّة لا تقلّ عن خمس سنوات، ينبغي ضمان الاستقلالية التامّة للبنك ومُحافظه وعدم المساس بها، لأنّ التعديلات الجديدة لن تُؤتي ثمارها ما لم يتمّ توفير الاستقرار والاستقلالية لهذه المؤسسة النقدية بالغة الأهمية في تسيير الاقتصاد الجزائري، ويمكننا حتى أن نذهب أبعد من ذلك، ونؤكِّد ضرورة إصدار قانون جديد يتضمَّن كل هذه النقاط، بدلاً من الاكتفاء بإدخال مجموعة من التعديلات على قانون قديم عفا عليه الزمن وغير قادر على مسايرة التطوُّرات العالمية في هذا المجال الحيوي.
يقتصر الحديث على التحديث والعصرنة والرقمنة من دون مشاكل أخرى، كتحرير سوق الصرف والقضاء على السوق السوداء للصرف التي فرضت نفسها بقوّة في ظلّ غياب مكاتب صرف رسمية، فلا يمكن للنظام المالي والمصرفي الجزائري أن يلتحق بمحطّة العصرنة والحداثة ما لم يجتز بنجاح مراحل إغلاق الأسواق الموازية لصرف العملة الصعبة وافتتاح مكاتب صرف رسمية، لأنّ تجذُّر تلك المشاكل المزمنة وتفاقمها لا يمكن أن يفتحا الطريق لحلّ مشاكل أخرى.
فعلى سبيل المثال، يستحيل أن تجتمع الحداثة في النظام المالي والمصرفي مع منحة السفر الهزيلة التي لا تتعدَّى قيمتها 109 دولارات يحقّ للمسافر الجزائري الحصول عليها مرّة واحدة سنوياً بعد تبديل مبلغ قيمته 15 ألف دينار، والمثير للشفقة والسخرية في آن واحد هو عدم رفع تلك القيمة منذ تاريخ 28 أغسطس/ آب 1997، الذي أصدر فيه بنك الجزائر تعليمة بخصوص هذه المنحة التي من المُفترض أن تغطِّي نفقات السفر للخارج طوال فترة السفر.
ينبغي أن يتمّ اتِّخاذ القرارات على أساس تحسين معيشة المواطنين، لا سيَّما البسطاء منهم الذين يعيشون تحت وطأة الفقر، وبناء اقتصاد تنموي حقيقي قائم على ركائز قويَّة ومتينة بعيداً عن الأغراض السياسية الخفيَّة والأدوات المُوجَّهة لاستقطاب الناخبين وكسب أصواتهم في الانتخابات القادمة.
خلاصة القول، يحتاج المواطنون الجزائريون لأجور ومنح ومعاشات تحفظ كرامتهم في ظلّ تغوُّل معدلات التضخُّم، وقبل ذلك،لإجراءات صارمة للكشف عن الفساد وردعه وملاحقة مرتكبيه قضائياً، فقد أثبتت السنوات الماضية اقتران عائدات النفط الضخمة بممارسات الفساد اللامحدودة على حساب المال العام والمنفعة العامة ومصالح المواطنين.