رغم اقتناعي التام بأفضلية الاستثمار في الأسهم الأميركية على المدى الطويل مقارنة بما سواها من بدائل متاحة في السوق الأميركية، لم يرفض عقلي في أي وقت احتمالات حدوث تراجعات تصحيحية في أسعار الأسهم، خاصة في بيئة مكانية وزمنية حافلة بالتغيرات الضخمة، على أكثر من صعيد، في كل ساعة، كما هو الحال في وول ستريت.
وبعيداً عن أخبار الفيروس ومتحوراته، والبنك الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" وقراراته، أو العلاقات التجارية الأميركية مع الصين، والمنافسة الاقتصادية بين العملاقين، فقد كانت هناك توقعات باقتراب الصدمة، بعد شهور طويلة عاش خلالها المستثمرون في نعمة.
والأسبوع الماضي، أنهي مؤشر ناسداك تعاملات يوم الجمعة على تراجع أسبوعي بنسبة 2.6%، كانت كفيلة بوصول خسائره في آخر أسبوعين لأعلى مستوى لها في ما يقرب من عشرة أشهر، وأكمل مؤشر إس آند بي 500 يوم الجمعة أسبوعه الثاني من الخسائر، وواصل مؤشر داو جونز الصناعي تراجعه، مسجلاً أسبوعه الرابع على التوالي من التراجعات.
اعتبر البعض أنّ شهادة جيرومي باول، رئيس البنك الفيدرالي، أمام مجلس الشيوخ الأسبوع الماضي، كانت العامل الأهم وراء تراجع الأسواق، وقال آخرون: "بل ظهور المتحور أوميكرون"، وأشار محللون إلى استمرار ارتفاع معدل التضخم، وتزايد احتمالات رفع معدلات الفائدة، وتراجع الآمال في عودة قريبة للنشاط الاقتصادي في القطاعات التي تأثرت بظهور الفيروس العام الماضي، وكلها تحليلات صحيحة ومقبولة، ساهمت بالفعل في تراجع مؤشرات الأسهم الرئيسية للسوق الأميركية.
أخفت خسائرُ "مؤشرات" الأسهم الرئيسية المحدودة (حتى الآن)، بعد مستويات قياسية استمر تحقيقها حتى الأسبوع الثالث من الشهر الماضي، خسائرَ كبيرة تكبدها العديد من "أسهم" الشركات الأميركية، ويمكن ملاحظة ذلك في أداء صندوق شركات التكنولوجيا الأشهر ARKK، الذي حقق مكاسب خلال عام الجائحة بنسبة 143%، قبل أن يخسر ربع القيمة التي كان عليها مطلع العام الحالي.
ومن بين 43 شركة يستثمر فيها الصندوق حالياً ما يتاح له من أموال المودعين، لم تنج إلا شركتان فقط من الدخول في دوامة الهبوط، التي تبدأ عند المحللين عادة بعد خسارة السهم أكثر من 20% من أعلى نقطة وصل إليها.
ووصلت الخسائر في أسهم بعض هذه الشركات لأكثر من ثمانين بالمائة منذ وصولها لأعلى نقطة في تاريخها مطلع العام الحالي، لكن الظاهرة الأهم كانت دخول فئات جديدة من الأميركيين للاستثمار في الأسهم.
وقبل شهرين، جمعتني الصدفة في أحد المقاهي بمجموعة من السيدات اللاتي جلسن في طاولة مجاورة، يتجاوز عمر أصغرهن سبعين عاماً، وكن يتحدثن عن سعادتهن بالاستثمار في البورصة للمرة الأولى في حياتهن، والأرباح التي حققنها من شراء هذا السهم أو ذاك.
نبهني دخول الفئة التي تمثلها تلك السيدات سوق الأسهم، كما دخول صديقي السياسي الذي تجاوز الخمسين عاماً ولا يتوقف عن سب "الرأسمالية العفنة وجشع المستثمرين" للمرة الأولى في حياته العام الماضي، وكذلك شراء ابني وأصدقائه أسهماً في البورصة قبل انتهاء تعليمهم الجامعي ببضع مئات من الدولارات حصلوا عليها من عملهم المؤقت، إلى الثقافة المالية الواسعة الموجودة في أميركا، والتي نفتقدها بشدة في أغلب مجتمعاتنا العربية التي ركنت إلى شراء شقة أو بيت في أغلب الأحوال، لمن توفر له المال وتجاوزت ثقافته إيداعه في البنوك.
تعاني مجتمعاتنا العربية من تدني الثقافة المالية بصورة واضحة، بسبب التطورات الكبيرة التي حدثت في مجالات الاستثمار خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والتي لم تتمكن الأغلبية الكاسحة من المواطنين من استيعابها، وشخصياً، سعدت جداً بما فعله المصرفي المصري المخضرم هشام عز العرب، الذي بدأ في تصوير مقاطع فيديو، يحاول فيها توسيع الثقافة المالية للمواطن غير المتخصص، ويطرح عليه البدائل الاستثمارية المتاحة في السوق المصرية، إلّا أنّ الأمر بالتأكيد يستلزم قيام الحكومة بدور من أجل ضمان وصول الرسالة إلى أعداد أكبر من المواطنين، وفي مختلف المدن المصرية.
قبل ما يقرب من ثلاثة عقود، درست الباحثة أناماريا لوزاردي، أستاذة الاقتصاد والمحاسبة حالياً في جامعة "جورج واشنطن" سلوكيات الادخار والاستثمار عند الأفراد، ووصلت إلى حقيقة هامة على بساطتها، تؤكد اختلاف ما يكون بحوزة شخصين من أصول عند وصولهما لسن المعاش، رغم حصولهما على نفس الراتب تقريباً خلال حياتهما العملية، مرجعةً السبب في ذلك الاختلاف إلى القرارات المالية التي اتخذاها على مدار سنوات في ما يخص ما توفر لهما من أموال.
واعتبرت لوزاردي أنّ الثقافة المالية تبدأ بضرورة أن يستطيع المواطن العادي فهم ثلاثة موضوعات أساسية، يتعلق أولها بعمل بعض الحسابات المرتبطة بمعدلات الفائدة، وثانيها بمعدل التضخم وتأثيره على المستهلكين، وثالثها بتنويع المخاطر عند اتخاذ القرار الاستثماري. وأشارت السيدة الحاصلة على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة برينستون الأميركية إلى أن أغلب المواطنين (الأميركيين) لا يوجد لديهم الحد الأدنى من الفهم المطلوب لتلك الموضوعات، وهو ما اعتبرته سبباً رئيسياً لاستمرار ونمو ظاهرة التفاوت في المجتمعات المختلفة.
كانت لوزاردي تتحدث عن المواطن الأميركي، الذي يتخذ قرارات استثمارية هامة تتعلق بما يمتلك في حساب التقاعد الخاص به، الذي يحق لهم إدارته واستثماره أثناء عمله، وقبل عقود من السماح له بالحصول عليه، والذي يضطر ابنه في سن السادسة عشرة لاتخاذ قرار باستثمار مبلغ ضخم، وربما التورط في الحصول على قرض ضخم، من أجل الالتحاق بإحدى الجامعات الكبرى، التي تصل مصاريف بعضها لمئات الآلاف من الدولارات.
لم أشعر بالقلق من ضعف الثقافة المالية للمواطن المصري، الذي لا يمتلك مدخرات في أغلب الأحوال، ولا يسمح له بإدارة أمواله الموجودة لدى هيئة التأمينات والمعاشات، ولا ترتفع تكلفة التعليم الجامعي المتاح له، لكن حقيقة كان كل قلقي من ضعف الثقافة المالية لدى بعض المسؤولين، الذين تتسبب قراراتهم في كثير من الأحيان في إفقار الملايين وزيادة معاناتهم، وهم لا يشعرون.