التونسيون يودعون عهد الوفرة... بيع المواد التموينية بالتقسيط

21 سبتمبر 2022
ارتفاعات متواصلة لأسعار السلع الضرورية (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

يودع التونسيون عهد الوفرة مع تعمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في بلادهم، حيث لم تعد السلع التموينية الأساسية متوفرة في الأسواق بالقدر الكافي، كما لم تعد جيوب المواطنين تسمح لهم إلا باقتناء المواد الكمالية في إطار خطط تقشفية اضطرت إليها الأسر.

تعيش أسواق تونس منذ أشهر تحت ضغوط متعددة وركود واسع، ما اضطر المحلات والمساحات التجارية الكبرى إلى تقسيط المبيعات فيما تواصل أسعار السلع الغذائية تصاعدها بشكل يومي، بينما تستورد الدولة جزءاً كبيراُ من احتياجاتها من الخارج، ما أدى إلى ارتفاع التكاليف بشكل حاد مع تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، خاصة مع تضرر الإنتاج الزراعي التونسي من موجة الجفاف التي عصفت بالبلاد.

ويسعى أصحاب المتاجر والمساحات التجارية الكبرى إلى التصرف في المخزونات الضعيفة من المواد الأساسية عبر تقسيط المبيعات وتحديد الكميات، حيث تعلق على رفوف الغذاء، ولا سيما السكر والزين النباتي والماء والحليب والقهوة، تنبيهات للزبائن حددت فيها كمية الشراء بالنسبة لبعض المنتجات، بألا تزيد الاقتناعات عن علبة أو اثنتين على أقصى تقدير.

واقع جديد

شح السلع واقع جديد يتعوّد عليه التونسيون حيث لم يسبق للأسواق أن عاشت مثل هذه الظروف حتى في أصعب الأوقات إبان الثورة في جانفي/ يناير 2011 أو حتى خلال الحجر الصحي في زمن جائحة كورونا.

ومنذ عقود طويلة تعوّد التونسيون على الوفرة التي تصل حد التبذير، ذلك أنهم من بين الشعوب المهدرة للغذاء بمعدل 91 كيلوغراما للفرد الواحد سنويا بحسب إحصائيات لمعهد الاستهلاك الحكومي.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

ينذر الواقع الجديد للأزمة في تونس بفترة قادمة قد تشتد فيها ندرة عديد السلع على الرغم من عودة انسيابية سلاسل الإمدادات العالمية، وذلك نتيجة لتراجع آلة الإنتاج وتصدّع منظومات الغذاء إلى جانب تراجع الاحتياطي المواد التموينية إلى درجة الصفر، الأمر الذي يجبر المواطنين على الانتظار في طوابير من أجل الحصول على كمية محدودة من السكر.

انتهاء المخزونات

يقول المسؤول النقابي بمصنع إنتاج السكر الحكومي، وهو المشرف الأول على مستودعات التخزين، أحمد الوحيشي، إنه لأول مرة في تاريخ المصنع لا تحتكم الشركة على أي مخزون استراتيجي من السكر بعد أن تم بيعه بالكامل لسداد حاجيات السوق والمصنعين.

ويضيف في تصريح لـ"العربي الجديد" أن المخزون الاستراتيجي من السكر كان يراوح ما بين 4 و7 آلاف طن، غير أن ارتفاع الطلب وتراجع كميات السكر الموردة من قبل ديوان التجارة الحكومي اضطر المصنع إلى استهلاك كل المخزون الاستراتيجي.

واعتبر الوحيشي أن أزمة السكر هي نتيجة حتمية لتدهور آلة الإنتاج وعدم تجديد معدات المصنع الحكومي الوحيد مقابل تواصل الاعتماد على السكر المورد، الذي ارتفع سعره إلى مستويات قياسية عالميا.

ويؤثر نقص السلع وتصدع منظومات الإنتاج على الميزان التجاري الذي يتعمّق عجزه من شهر إلى آخر ليصل إلى 2.1 مليار دينار خلال شهر أغسطس/ آب الماضي مقابل 1.3 مليار دينار في ذات الفترة من سنة 2021 وفق بيانات نشرها المرصد الوطني للفلاحة الخميس الماضي.

الشراء بالأقساط

وتقول المواطنة روضة التبرسقي وهي ربة عائلة مكونة من 5 أفراد: "أصبحنا نقسط أغلب المواد التموينية لأننا نجد صعوبة في الحصول عليها مع تراجع الدخول".

وتضيف في تصريح لـ"العربي الجديد" أن التونسيين يواجهون وضعا غير مسبوق، مؤكدة أنها لم تتعود أن ترى المواطنين في رحلة بحث عن قوارير الماء المعدني أو السكر أو علبة لبن وهو أمر صادم حسب قولها.

وتؤكد المتحدثة أنها كانت تشتري التموين الأسري أو "الكمية" كما يتداول محليا مرة كل أسبوعين، حيث تقتني من المتاجر الكبرى أو تجار التجزئة كل ما يكفي أسرتها من غذاء ومواد تنظيف لمدة أسبوعين، لكن هذه العادة تغيّرت بعد أن أصبحت مضطرة للتردد على محلات البقالة الأقرب لمنزلها للحصول على علبة حليب يوميا أو بعض قوارير الماء المعدني

وتشير إلى أن تجار التجزئة وبقالات الأحياء يسعون إلى التصرف في مخزوناتهم الضعيفة عبر تقييد الشراءات لتلبية حاجيات أكبر قدر ممكن من زبائنهم.

تراجع الزراعة

وتستورد تونس جزءا كبيرا من حاجياتها، بما يشكل 90 في المائة من مجمل الاستهلاك المحلي من حاجياتها من القمح اللين المخصص لصناعة الخبز. كما تستورد القهوة والسكر والأرز وزيت الطهي النباتي عن طريق مؤسسات التموين الحكومية.

وتدعم الحكومة المخزونات التعديلية من مواد أساسية منتجة محليا ومنها الإنتاج الزراعي على غرار البيض والبطاطا والحليب ولحوم الدواجن.

ويرى الخبير الاقتصادي خالد النوري، أن من أسباب أزمة التموين التي تتصاعد في تونس هو تراجع أداء المنظومات الزراعية المنتجة للغذاء التي لم تعد قادرة على مجابهة غلاء مدخلات الإنتاج، إلى جانب وصول المؤسسات الحكومية المسؤولة عن التموين إلى مرحلة الإفلاس تقريبا فضلا عن انهيار الاحتياطات الاستراتيجية.

وقال النوري في تصريح لـ"العربي الجديد" إن تونس لم تعرف أزمة غذاء منذ ما يزيد عن 6 عقود حيث عرفت السوق المحلية بالوفرة التي تعود عليها المستهلكون وطبعت حتى عاداتهم في التصرف في الغذاء وأنتجت حتى الإهدار.

ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن الأمر أصبح مختلفا تماما نتيجة تأثر مؤسسات التموين الحكومية بأزمة المالية العمومية وتراجع قدرتها على خلاص المزودين في ظل ظرف عالمي صعب.

لا أثر للجهود الحكومية

واعتبر النوري أن تراجع التصنيف السيادي لاقتصاد تونس أثر على مصداقية الدولة في قدرتها على سداد فواتير الغذاء ما جعل المزودين أكثر تشددا في المطالبة بمستحقاتهم

في مارس/آذار الماضي خفضت وكالة "فيتش" الدولية للتصنيف الائتماني، تصنيف تونس السيادي من مرتبة "B-" إلى "CCC".

وقالت الوكالة إن "هذا التصنيف يعكس مخاطر السيولة المالية والخارجية المتزايدة في سياق المزيد من التأخير في الاتفاق على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي".

كذلك يقول النوري إن تجار الجملة وأصحاب مخازن التبريد أصبحوا يتجنبون تكوين مخزونات المواد الأساسية خوفا من الملاحقات القضائية ومداهمات محلاتهم بتهمة الاحتكار.

وفي مارس/ آذار الماضي أصدر الرئيس التونسي مرسوما يتعلّق بمقاومة المضاربة غير المشروعة.

ويهدف المرسوم إلى تأمين التزويد المنتظم للسوق وضبط مسالك التوزيع، كما يصل بمقتضاه العقاب لمخالفي القوانين إلى السجن المؤبد وغرامات مالية قدرها 500 ألف دينار.

لكن المواطنين يقولون إنهم لم يروا أي أثر للجهد الحكومي في مكافحة الغلاء، حيث تسجل الأسعار زيادات تكاد تكون يومية في بعض المواد والسلع، بما في ذلك التي تؤطرها الحكومة.

المساهمون