شهد العالم، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، ثلاثة تطورات اقتصادية تفتح الشهية على التحليل، ومشاركة القرّاء في استنتاجات قد تكون مثار نِقاشٍ وجَدلٍ.
الأول، التقلب الكبير في سعر صرف العملات الافتراضية، بخاصة بيتكوين التي ارتفع سعرها في عام 2009 من عدد من السنتات الأميركية إلى أكثر من 47 ألف دولار هذا الأسبوع. وقد بلغ التذبذب في سعرها يوم الإثنين الماضي عن الأيام التي قبله بحوالي 1,388 دولاراً، وفي آخر ثلاثين يوماً بمقدار يقارب 13 ألف دولار، وبمقدار أكثر من 40 ألف دولار خلال الأشهر الستة الماضية التي حققت بيتكوين فيها قفزة هائلة إلى أكثر من 58 ألف دولار، بعدما قامت شركة تيسلا للاستثمار التابعة لأكبر شركة لإنتاج السيارات الكهربائية في العالم باستثمار قدره 1.5 مليار دولار في شرائها. وحيث إن المدير التنفيذي لشركة تيسلا، إيلون ماسك، قد اكتسب سمعة "ميداسية"، إذ يتحوّل التراب على يديه إلى تبْر، فقد لحقه كثيرون. ولكن عندما أعلنت بعض الدول، وبخاصة الولايات المتحدة، عن عزمها تنظيم إصدار العملات الافتراضية وبيعها، تراجع السعر بمقدار عشرة آلاف دولار، قبل أن يستعيد عافيته ويصعد إلى حاجز 47 ألف دولار.
وقد صارت بيتكوين وحكايتها أقرب إلى روايات الميثولوجيا الإغريقية، حيث يمثل ماسك فيها الإله زيوس. ويقول هو ومن يؤمنون بمغامراته الخارقة في مجالات التكنولوجيا، مثل ترتيب رحلات تجارية للدوران حول القمر، وصنع بطارية السيارة "تيسلا" تدوم لأكثر من مليون ميل، يقول هؤلاء إن بيتكوين سوف تصل قيمة مجموع إصداراتها عام 2030 إلى ما قدره 8 تريليونات دولار مقابل نحو تريليون دولار حاليا. وهذا يعني أن كل قطعة نقد منها ستبلغ قيمتها حوالي 400 ألف دولار، أو حوالي 85 ضعف سعرها اليوم. وقد سارع البنك المركزي الأردني، قبل أسبوعين تقريباً، إلى إصدار تحذير للأردنيين بعدم شراء بيتكوين، أو العملات الرقمية الأخرى الشبيهة، لأن نسبة التقلب في أسعارها لا تجعلها عملة خاضعة للسوق وقوى العرض والطلب فيه، بقدر ما هي خاضعة لحيل المقامرين.
الحدث الثاني المهم، ارتفاع سعر النفط بُعَيْد انتهاء اجتماع وزراء نفط الدول في منظمة أوبك (opec)، أو الدول المصدّرة للنفط. وبسبب الاتفاق على تقليل إنتاج النفط بمقدار وصل إلى ثمانية ملايين برميل يومياً من مجموع حصص المجموعة التي كانت في حدود 30 مليون برميل يومياً، واحتواء احتمالات الخصام بين السعودية وإيران، فقد صعد نفط مزيج برنت إلى 69 دولاراً للبرميل الاثنين الماضي. وخام غرب تكساس المباشر (WTI) إلى حوالي 66.5 دولاراً للبرميل. ولَم يكن الارتفاع ناجماً فقط عن تخفيض "أوبك" حجم إنتاجها، بل لأن دولا كثيرة راهنت على وجود فائض في النفط، ما أقعد همّتها عن إعادة بناء المخزون من النفط لديها. ونظراً إلى التوقعات بإمكانية ارتفاع النفط إلى 77 دولاراً للبرميل هذا الصيف، فإن دولا كثيرة منها سارعت إلى الشراء المستقبلي، أو حجز كميات مسبقاً بسعر اليوم (hedging)، أو بالشراء التحوطي، ما رفع الطلب، الحالي والمستقبلي، إلى مستويات أعلى، في وقت انخفض المعروض من النفط عالمياً.
والسؤال الذي يعود إلى الواجهة: هل فعلاً سيعاود سعر النفط ارتفاعاته في ظل الانكماش الاقتصادي العالمي حالياً أم لا؟ خاصةً إذا حصل انتعاش اقتصادي عالمي، فماذا سيكون مصير اقتصاد الدول النامية غير النفطية؟
التطور الثالث هو زيادة التنافس بين أكبر اقتصادين في العالم على مَن هو الأقدر منهما على الضغط على الآخر، وهل ستكون الغلبة في لعبة "من يرمش أولاً" لصالح الصين أم لصالح الولايات المتحدة. ولكن التنافس هذه المرّة يأخذ بعداً جديداً مختلفاً، فلن يلجأ الطرفان إلى حرب تجارية مباشرة، كما عهدناها أيام الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، حيث تُمارس أحكام المقاطعة ورفع الأسوار والرسوم الجمركية، بل عن طريق تجنّب أي منهما الاعتماد على العلاقة مع الطرف الآخر، أو ما يمكن تسميتها سياسة فك الارتباط التجاري بين العملاقين بالتدريج.
لقد أقرّ الحزب الشيوعي الصيني، قبل أيام، سياسة اقتصادية تدعو الى رفع معدل النمو السنوي الصيني إلى 6%، ليتمكّن من زيادة فرص العمل بأكثر من 11 مليون في السنة. والتركيز على إعادة توزيع الدخل لصالح الأقاليم الأفقر، وزيادة نسبة الطبقة المتوسطة في الصين. وبمعنى آخر، تريد الصين أن تقلل من أثر الاستثمار والتجارة الخارجية على نموها، والاستعاضة عنهما بزيادة الإنفاق على الاستهلاك داخل الصين. وبعبارة أخرى، تتحول الصين إلى دولة أقرب إلى المفهوم الرأسمالي بوسائل شبه اشتراكية، يكون فيها الاستهلاك المحلي هو المحرّك للدورة الاقتصادية، أو بلغة الاقتصادي جون كينز الاعتماد على المضاعف بدلاً من المُسارع (the multiplier and not the accelerator).
أما الولايات المتحدة فقد تبنى الكونغرس فيها بأصوات الحزب الديمقراطي قانوناً لإنفاق 1.9 تريليون دولار، من أجل الإنعاش الاقتصادي. وبعدما صوّت مجلس الشيوخ على الصيغة المعدّلة للقانون يوم السبت الماضي، صرّح الرئيس جون بايدن أنه قد أوفى بوعده للشعب الأميركي، وأن سياسته في الإنعاش الكينزية، والمعتمدة على طبع الدولارات وضخها في الأسواق، والتي وعد بها الناخبين إبّان حملته الانتخابية قد أنجزت. ولَم يقف عند هذا الحدّ، بل أكد أن هذا القانون سوف يُمَكّن الولايات المتحدة من الاعتماد على نفسها، والحفاظ على مركزها أكبر اقتصاد في العالم، ولا تنافسها في ذلك أي دولة.
والسؤال الأخير بعد هذا كله، إلى أين يسير الاقتصاد العالمي؟ إنه عالم ينظر إلى المدى القصير، ولا يأبه بنتائج سياساته في المدى الطويل. هذه النظرة قصيرة الأجل تخضع لما قاله كينز "أنا أُركز على المكسب في المدى المنظور القصير، أما في المدى الطويل، فكلنا ميتون". وهذه تحتاج إلى تحليل، لعلي أتعرّض له الأسبوع المقبل.