التقشف الحاد ليس حلّاً مستداماً في لبنان

26 يوليو 2024
احتجاجات تراجع القيمة الشرائية للمعاشات/6 فبرائر2024،(حسام شابرو/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أعلن الموظفون الفنيّون في المديريّة العامّة للطيران المدني في لبنان عن توقفهم عن العمل الليلي بدءًا من أغسطس المقبل، احتجاجًا على حرمانهم من المخصّصات الماليّة الإضافيّة، مما أثر على مطار بيروت الدولي.
- تعاني الإدارات والمؤسسات العامّة اللبنانيّة من شحّ الاعتمادات والسيولة، مما أدى إلى تدهور نوعيّة الخدمات، رغم امتلاك الخزينة موارد كافية.
- سياسة التقشّف الحادّة للمصرف المركزي ووزارة الماليّة زادت احتياطات العملات الأجنبيّة، لكنها أثرت سلبًا على فعاليّة المرافق والخدمات العامّة، مما يستدعي إعادة هيكلة المصارف والإنفاق على الخدمات الاجتماعيّة.

يوم الأربعاء الماضي، أعلن الموظفون الفنيّون في المديريّة العامّة للطيران المدني في لبنان عزمهم على التوقّف التام عن القيام بالأعمال الليليّة، ابتداءً من بداية شهر آب/أغسطس المقبل، احتجاجًا على حرمانهم من المخصّصات الماليّة الإضافيّة التي يستفيد منها الموظفون في الإدارات العامّة. مع الإشارة إلى أنّ هذه المخصّصات تمثّل التعويض الأهم الذي يستفيد منه موظفو القطاع العام، بعد تدهور قيمة أجورهم، جرّاء خسارة الليرة اللبنانيّة أكثر من 98% من قيمتها منذ أواخر العام 2019.

وخلال الأيّام القليلة التي سبقت هذا الخبر، شهد مطار بيروت الدولي انقطاعات مفاجئة في التيّار الكهربائي، جرّاء شح الفيول في معامل مؤسسة كهرباء لبنان، التي تعتمد المرافق العامّة على تغذيتها. وهذا ما فرض لجوء إدارة المطار إلى خطط الطوارئ، للتمكّن من القيام بالعمليّات التشغيليّة الطبيعيّة. وعلى النحو نفسه، طلبت مؤسسة مياه لبنان الجنوبي من المستهلكين الاستعداد لتقنين خدماتها، بسبب انقطاع الكهرباء اللازمة لتشغيل معدّات الضخ.

وجميع هذه الأحداث، تزامنت مع تحذير هيئة أوجيرو –اليد التنفيذيّة لوزارة الاتصالات- من اتجاهها للتوقّف التدريجي لأعمال الصيانة والتشغيل للشبكة الوطنيّة، التي تقدّم خدمات الإنترنت والاتصالات الأرضيّة. وجاءت هذه التحذيرات على خلفيّة نفاد الأموال وعدم تمكّن الهيئة من استلام الأموال المُقرّة لها في الموازنة، بسبب تعقيدات "بيروقراطيّة" في الإدارة العامّة، كما فسّر المشكلة المدير العام للهيئة عماد كريديّة.

جميع هذه المظاهر، التي طرأت معًا خلال فترة لم تتجاوز الأسبوع، باتت تُعبّر عن الواقع المأساوي الذي تعيشه اليوم جميع الإدارات والمؤسسات العامّة اللبنانيّة، بما فيها المرافق التي تؤدّي الوظائف الأكثر حساسيّة كالمطار أو مؤسسات المياه. وبطبيعة الحال، اتسمت هذه التطوّرات بخطورة استثنائيّة، لتزامنها مع الأحداث العسكريّة التي يشهدها جنوب لبنان، والتي تثير المخاوف من إمكانيّة اتساع نطاق المواجهات. إذ في مثل هذه الظروف المتوترة، تزيد أهميّة تحصين الجبهة الداخليّة، لضمان استمراريّة الخدمات الحيويّة والبديهيّة.

العامل الأساسي والمشترك خلف جميع هذه الأحداث، هو شحّ الاعتمادات والسيولة المخصّصة لتمويل الإنفاق العام، وخصوصًا بالعملة الصعبة. وهذا ما يفسّر عدم قدرة مؤسسة الكهرباء على شراء الفيول اللازم لتشغيل المعامل بكامل طاقتها، وعدم توفّر التمويل المطلوب لصيانة شبكات الاتصالات، أو دفع الحوافز لموظفي بعض الإدارات الرسميّة. وعلى هذا الأساس، بات ترهّل الإدارات الرسميّة وشللها، ومن ثم تردّي نوعيّة الخدمات إلى أقصى حدود، السمة الأساسيّة للمرحلة الراهنة.

اللافت للنظر، هو أنّ الخزينة اللبنانيّة –وبخلاف الشائع- لا تنقصها حاليًا الموارد الماليّة لتشغيل مرافقها العامّة. فلغاية منتصف شهر تمّوز/يوليو الحالي، بلغ رصيد حسابات القطاع العام لدى المصرف المركزي ما يقارب الـ 5.16 مليارات دولار أميركي، وهو ما يوازي الـ 1.6 ضعف حجم النفقات المُقرّرة ضمن موازنة العام الحالي. أمّا أهم ما في الأمر، فهو أن هذا الرصيد بات يتزايد بشكل مطرد، وهو ما أدّى إلى ارتفاعه بقيمة 840 مليون دولار أميركي منذ منتصف شباط/فبراير الماضي.

بصورة أوضح، ثمّة سياسة تقشفيّة حادّة مُتفق عليها بين المصرف المركزي ووزارة الماليّة، بما يؤدّي إلى احتجاز وتراكم الإيرادات العامّة في حسابات الدولة، بدل تمويل الحاجات المُلحّة والداهمة. وهذا ما يتكامل أساسًا مع طبيعة الموازنة التي تم إقرارها هذا العام، والتي بالغت في تقليص سقوف الاعتمادات الممنوحة للإنفاق العامّ، كما أفرطت في تخفيض حجم الإيرادات المتوقّعة –وبشكل غير علمي- لتبرير السياسة التقشفيّة.

ثمّة أهداف واضحة لهذه السياسة الماليّة المتشدّدة المتبعة اليوم. فاحتجاز الإيرادات العامّة التي يجري تحصيلها بالليرة اللبنانيّة، يسمح للمصرف المركزي بامتصاص جزء كبير من الكتلة النقديّة المتداولة بالعملة المحليّة. وهذا ما يسمح للمصرف المركزي باستعمال الجزء الأكبر من هذه الليرات لشراء العملة الصعبة من السوق الموازية، وزيادة احتياطاته بالعملات الأجنبيّة، من دون الاضطرار لطبع أو خلق المزيد من النقد بالعملة المحليّة.

في نتيجة العمليّة، وفي مقابل الإيرادات التي جرى احتجازها في المصرف المركزي، ارتفعت احتياطات المصرف بالعملات الأجنبيّة بنحو 818 مليون دولار أميركي، منذ منتصف شباط/فبراير. وبطبيعة الحال، لم تشهد الكتلة النقديّة المتداولة بالعملة المحليّة أي تضخّم يمكن أن يضر بسعر صرف الليرة اللبنانيّة، كون المصرف لم يلجأ لخلق أي ليرات جديدة خلال هذه العمليّة. بل على العكس تمامًا، كان المصرف المركزي يضبط الكتلة النقديّة بالعملة المحليّة من خلال عمليّة تحصيل الضرائب واحتجازها.

وبهذا الشكل، حقّق المصرف المركزي هدفين متوازيين: إعادة تعويم احتياطاته وزيادة ملاءته عبر شراء الدولارات، وتحقيق الاستقرار النقدي عبر ضبط حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالعملة المحليّة. غير أن تحقيق هذه الأهداف النقديّة، جرى طبعًا على حساب السياسة الماليّة للدولة، أي على حساب التقشّف غير الطبيعي في الإنفاق العام. وبهذه الصورة، تمّ تحميل الكلفة النهائيّة لفعاليّة المرافق والإدارات العامّة، ولنوعيّة الخدمات التي تقدّمها.

تتعدّد التحليلات التي تحاول تفسير سبب سعي المصرف المركزي –بالاتفاق مع وزارة الماليّة- لمراكمة الاحتياطات وزيادتها على هذا النحو، بمعزل عن أثر هذه السياسة على ماليّة الدولة. ثمّة بعض الآراء التي تعتبر أنّ المصرف والحكومة يحاولان معًا خلق كتلة جديدة من الاحتياطات الماليّة التي تسمح بالدفاع عن الاستقرار الاقتصادي في المستقبل، في حال فشل مسار التفاهم مع صندوق النقد الدولي، أو في حال عجزت الدولة عن العودة إلى أسواق الدين الدوليّة.

وفي الوقت نفسه، ثمّة ما يشير إلى أنّ المصرف المركزي يحاول زيادة حجم احتياطات العملة الأجنبيّة التي يمكن استخدامها في المستقبل، للتدخّل في سوق القطع، والحفاظ على استقرار سعر صرف العملة المحليّة. كما يبدو أنّ المصرف يحاول إرساء تجربة تمكّنه من زيادة ملاءته بشكل متدرّج، على أمل الارتكاز على هذا النموذج في المستقبل، لوضع حلّ يسمح بإطفاء الخسائر المتركمة في ميزانيّة مصرف لبنان، ولو على مدى فترة زمنيّة طويلة.

بمعزل عن خلفيّات هذه السياسة النقديّة، من المهم الإشارة إلى أنّ التقشّف الحاد، الذي يعتمد على تحصيل واحتجاز الإيرادات العامّة، لا يمكن أن يؤسّس لحل مستدام على المدى البعيد. فوظيفة الدولة الأولى ليست مراكمة الاحتياطات بهذا الشكل، بل الإنفاق على الخدمات العامّة البديهيّة التي يحتاجها المجتمع، وضمان وجود شبكات الحماية الاجتماعيّة التي تحتاجها الفئات الأكثر هشاشة. أمّا غياب هذا الدور، واعتماد المواطنين على القدرات الذاتيّة لتأمين الخدمات الأساسيّة، فسيزيد من حدّة التفاوتات الاجتماعيّة بين شرائح المجتمع.

في المقابل، على مصرف لبنان معالجة خسائره وخسائر المصارف التجاريّة عبر عمليّة إعادة الهيكلة المصرفيّة الشاملة، التي لم تبصر النور بعد، رغم مرور نحو خمس سنوات على حصول الأزمة الماليّة. وهذا ما يمكن أن يؤسّس لسياسة نقديّة مستدامة ومستقرّة، من دون تحميل الكلفة لماليّة الدولة العامّة، أو لعموم المقيمين الذين يعتمدون على الدور الذي تلعبه الدولة.

المساهمون