استمع إلى الملخص
- **تأثيرات اقتصادية محلية ودولية**: يعزو المحللون ارتفاع التضخم إلى شح الدولار وارتفاع تكاليف الواردات، مع توقعات بزيادة التضخم إلى أكثر من 30% بنهاية العام.
- **تداعيات اجتماعية واقتصادية**: ارتفاع الأسعار أثر على الحياة اليومية وزاد معدلات الفقر، مما يهدد الاقتصاد بالركود. البنك المركزي يعتمد سياسات نقدية مشددة، والحكومة تعهدت ببرامج للحد من التضخم.
تظهر البيانات الحكومية في مصر تراجع أسعار المستهلكين (معدل التضخم)، بينما الواقع يعكس صورة مغايرة في ظل قوائم الأسعار الحقيقية على مختلف السلع والخدمات التي تشهد ارتفاعاً مستمراً بوتيرة أسبوعية، ما أرهق معظم الأسر التي باتت تجهر بالضيق من غلاء السلع الغذائية والكهرباء والوقود والأدوية والملابس ورسوم ومستلزمات المدارس.
وتدفع مستويات الأسعار التضخم إلى العودة لمستوياته القياسية، التي بلغها نهاية عام 2023، عند معدلات فاقت 40%، في اتجاه معاكس لتوجهات البنك المركزي، التي يحاول خفضها عند 20% حداً أقصى بنهاية العام الجاري. وكشف جهاز الإحصاء الحكومي عن تراجع معدل التضخم على أساس سنوي في يوليو/تموز الماضي إلى نحو 25.2%، مقابل 27.1% على أساس سنوي في يونيو/حزيران.
وسوقت الحكومة البيان الإحصائي، وسط دهشة المستهلكين الذين يشعرون بضيق شديد جراء ارتفاع الأسعار في الأسواق، على مدى السنوات الماضية، زادت حدتها خلال العامين الماضي والحالي، مع انهيار حاد في قيمة الجنيه، وارتفاع أسعار الواردات وتكاليف التشغيل، وتراجع قيمة الدخل.
تبشر الحكومة بخفض معدلات التضخم، دون القدرة على السيطرة على تدهور سعر الجنيه مقابل الدولار وضبط مؤشرات الغلاء الفاحش في الأسواق، بما يؤدي إلى عدم تباطؤ أسعار السلع وتلاشي الأمل بانخفاض أسعارها خلال الفترة المقبلة، وفق محللين اقتصاديين.
وفي توقعات للبنك الدولي، جرى الإعلان عنها مطلع الأسبوع الجاري، أشارت المؤسسة الدولية إلى استمرار معدلات التضخم العالمي في مساره الهابط، من 4.9% عام 2023، إلى 3.5% عام 2024، معربا عن أمله في أن تصل إلى مستهدفات البنوك المركزية عند 2% خلال عامي 2025 و2026، مدفوعا بتراجع التضخم الأساسي وانخفاض الفائدة، مع انخفاض الطلب على الخدمات إلى الحدود المتوسطة. لكن التوقعات الدولية هذه تأتي معاكسة لما يراه خبراء محليون من زيادة متوقعة في معدل التضخم في مصر خلال الفترة المقبلة، متأثراً بزيادة أسعار المحروقات والكهرباء والنقل والمياه، والسلع الأساسية، لتزيد عن 30% بنهاية العام الجاري.
يؤكد هشام حمدي المحلل المالي للسلع الاستهلاكية، لـ"العربي الجديد" أن الأسواق تتأثر بشدة بحالة التضخم المحلي، المدفوع بشح الدولار وعدم القدرة على تدبير كافة احتياجات الدولة من السلع الأساسية ومستلزمات الإنتاج إلا عبر الشراء من الخارج بالعملة الصعبة، مبينا أنه رغم وجود مؤثرات خارجية تدفع التضخم إلى الارتفاع إلا أن أثرها يتجه للتراجع خاصة من توجه البنوك الأوروبية والأميركية لخفض الفائدة على عملاتها، وهبوط مؤشر أسعار السلع الأساسية التي تشمل القمح واللحوم والبترول والغاز، والسلع المعمرة.
ويبدي المصريون دهشتهم من البيانات الحكومية حول انخفاض التضخم، ولطالما يعبرون عن واقعهم بأمثال شعبية متوارثة لعل أبرزها "أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب" في تعبير صارخ عن التناقض بين ما تعلنه الحكومة والواقع المعيشي للناس. فقد تجاوزت أسعار الدواجن الحية 95 جنيهاً للكيلو غرام لتصل إلى 125 جنيها (2.6 دولار) للبلدي، بينما ارتفعت أسعار اللحوم البلدية من 430 جنيها إلى 490 جنيها (9.9 دولارات)، متأثرة بارتفاع أسعار الأعلاف، وعدم توافر البدائل المحلية، استدعت الحكومة إلى طلب استيراد كميات عاجلة كبيرة من اللحوم والدواجن المجمدة من البرازيل، لتهدئة منحى الغلاء الصاعد للحوم، مقابل تصدير الأسمدة والبطاطس، للأسواق البرازيلية، ضمن صفقات استيراد تجارية في حدود 2.8 مليار دولار بين البلدين.
وسجلت أسعار بيض المائدة ارتفاعا كبيراً أيضا بلغت نسبته 30% دفعة واحدة خلال الأسبوع الجاري، حيث زاد سعر طبق البيض من 150 جنيها إلى 185 جنيها في المتوسط، يرتفع في بعض المحلات إلى 205 جنيهات، في موسم شديد الحرارة، يشهد عادة انخفاضاً في الطلب. ويرجع موزعون الزيادة إلى انخفاض المعروض من البيض، وتأثره بتراجع الإنتاج في المزارع التي تشهد اضطراباً في الإنتاج، لعدم قدرتها على شراء مستلزمات الإنتاج من الخارج بالدولار، وارتفاع تكاليف التشغيل، جراء زيادة سعر النقل والغاز والكهرباء والمحروقات (المنتجات البترولية) وتأجير عنابر التفريخ والإنتاج.
وتشهد أسواق الخبز الحر حالة ارتباك أيضاً، ارتبطت بعدم قدرة الحكومة على التعاقد لشراء نحو 3.8 ملايين طن من القمح المستورد، بداية الشهر الجاري، عقب رفض الجهات الموردة الارتباط بتوريد القمح بعقود دفع آجلة مدتها ستة أشهر، وتفضيل الدخول في مناقصات التوريد بنظام الدفع الفوري، بما يضمن سداد الحكومة التزاماتها بالدولار، وتحسبا لارتفاع أسعار التوريد لأكبر مستورد للقمح في العالم، خلال الأشهر المقبلة، متأثراً بحالة التوتر الجيوسياسية التي تسود المنطقة.
ودفعت الأزمة التجار إلى التحوط في التخلص بما لديهم من مخزون من الأقماح المحلية، المتوافرة بنحو 8 ملايين طن خلال موسم الحصاد المنتهي في مايو/أيار الماضي، ورفع قيمة الائتمان المخصص لكبار الموزعين والمطاحن، بما أدى إلى تحوط صغار الموزعين وتجار منتجات الدقيق برفع تدريجي للأسعار، تسبب في زيادة سعر رغيف الخبز الحر بنسبة 20%، مع ارتفاع متصاعد للمعجنات والمكرونة، بنسبة 10%.
ولجأ أصحاب المطاعم الشعبية إلى خفض وزن قرص الطعمية (الفلافل) صغير الحجم بنسبة 25% من وزنه المعتاد، وزيادة سعر الكبير من 2.5 جنيه إلى أربعة جنيهات، يزيد إلى ستة جنيهات للمحشي بالخضروات الحارة، مع تخفيض وزن علبة الفول، وكميات البطاطس (البطاطا) المعتادة.
تصدرت الطماطم والبطاطس الارتفاعات في سوق أسعار الخضر، حيث تجاوز سعر الكيلو 25 جنيهاً في الأسواق الشعبية، يصل إلى 30 جنيهاً في المراكز التجارية، في ظاهرة يؤكد مزارعون تأثرهما بقلة الإنتاج في موسم بين العروات الزراعية وتكلفة النقل والعمالة والأسمدة والمبيدات الزراعية، بينما استقرت أسعار الفاكهة عند معدلاتها المرتفعة، بمتوسط 50 جنيها لكيلو العنب و60 جنيها للتفاح المصري و120 جنيها للمستورد و40 جنيها للمانجو السكري و60 جنيها للعويس و120 جنيها للفص، و25 جنيها لليمون و17 جنيها للشمام و35 جنيها للمشروم.
وامتدت زيادة الأسعار للمصروفات المدرسية، التي فرضت على أولياء الأمور، خلال شهري يوليو/تموز الماضي، ويجري سدادها في أغسطس/آب الجاري وبحد أقصى في سبتمبر/أيلول. تبدأ نسبة الزيادة بنحو 15%، بالمدارس التجريبية الرسمية والخاصة واللغات والتابعة للجمعيات الأهلية، وتصل إلى 40% في المدارس الدولية متأثرة بزيادة تكاليف التشغيل وتراجع قيمة الجنيه أمام الدولار، بنحو 60% خلال الفترة من يوليو/تموز 2023 إلى أغسطس/آب 2024. وفي جولة بالأسواق رصدت "العربي الجديد" زيادة كبيرة في أسعار الملابس المدرسية، فاقت ضعف ثمنها السائد عام 2023، دفعت المواطنين إلى انتظار الشراء لحين توافر عروض مخفضة في المحلات العامة ونهاية فترة التخفيضات الصيفية المستمرة حتى منتصف سبتمبر/أيلول المقبل.
كذلك وافقت هيئة الدواء على رفع أسعار نحو 17 ألف صنف دوائي، على مراحل بدأ تنفيذها منذ يونيو/حزيران الماضي، بنسب تراوحت بين 20% إلى 50% دفعة واحدة، حسب تصريحات أعضاء شعبة صناعة الأدوية بالغرف الصناعية، مع تشكيل لجنة فنية لمراجعة أسعار الدواء كل ستة أشهر، بعد ضغوط من الشركات المصنعة للأدوية، التي تطلب تسعير الأدوية وفقا لتذبذب سعر صرف الجنيه، أمام الدولار والعملات الأجنبية.
في الأثناء يواجه المرضى نقصاً حاداً في الأدوية محلية الصنع والمستوردة، شملت أكثر من 1000 صنف يحتاجها يومياً ذوو الأمراض المزمنة ومرضى السرطان، بما تسبب في ارتباك سوق توزيع وبيع الأدوية وانشار سوق سوداء لمبيعات الأدوية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بعيداً عن الرقابة الصحية والأمنية للدولة، تحرم الفقراء من فرصة الحصول على العلاج.
كما تسبب وقف تمويل البنوك لشراء السيارات من الخارج، لمدة ثلاثة أشهر برفع أسعار السيارات الشعبية (الأكثر انتشاراً) بين 20 ألف جنيه و120 ألفاً خلال الأسبوع الماضي. ونقلت الزيادة سعر السيارات الشعبية إلى فئة المليون جنيه، والتي كانت تباع بسعر لا يزيد عن 300 ألف جنيه قبل فبراير/شباط 2022.
يخشى اقتصاديون من أن يدفع التضخم الأسواق إلى الركود، مع تراجع بالطلب امتد أثره إلى السلع الأساسية، التي لم يعد المواطن قادراً على تدبيرها يومياً، بما يزيد من معدلات الانكماش في الطلب على الإنتاج ويعطل عجلة الاقتصاد. ويشير خبراء إلى أن التراجع في أسعار بعض السلع المعمرة، يرجع إلى تناقص القدرة على شرائها من أغلب فئات المجتمع، بما يسبب انخفاض تدفق الأموال عبر الاقتصاد ويزيد الأزمة الاقتصادية تعقيداً، خاصة في ظل صعوبة حصول المستثمرين على قروض تمكنهم من توفير السيولة لتدبير مستلزمات الإنتاج، وعدم قدرة الأفراد على اللجوء للقروض الاستهلاكية، مع صعوبة سداد المستحقات الشهرية المترتبة على استمرار الطلب الاستهلاكي، أو توقع زيادة رواتبهم بما يوازي معدلات التضخم المتصاعدة بسرعة.
في المقابل يراهن البنك المركزي على قدرته على الفوز في معركته ضد التضخم، باتباعه سياسات نقدية مشددة، مرتكزاً على رفع سعر الفائدة وسحب السيولة النقدية من الأسواق، لدعم قدرة الجنيه على الوقوف في مواجهة الصعود المستمر للدولار والعملات الرئيسية، بينما تظل العقبة الكأداء قائمة، مع تزايد العجز السنوي في الميزان التجاري، أي بين الصادرات والواردات، وارتفاع معدلات الدين العام وخدمة فوائد أقساط القروض المستحقة للدائنين، وعدم قدرة القطاع الصناعي غير النفطي من الخروج من حالة الركود التي دخلها منذ أربعة أعوام، بسبب تدهور العملة، وشح الدولار والبيروقراطية الحكومية، وزيادة معدلات التضخم، وفق محللين.
وتبلغ قيمة القروض المحلية والأجنبية واجبة السداد خلال العام المالي الجاري 2024/2025 (بدأ في الأول من يوليو/تموز)، نحو 1.6 تريليون جنيه، وفقا لبيانات وزارة المالية. وفي اجتماع رئاسي في 13 أغسطس/آب الجاري، تعهد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بأن تضع الحكومة برامج وسياسات متكاملة، للحد من التضخم عبر توفير السلع الأساسية والخدمات للمواطنين، وضبط التوازن المالي في الموازنة العامة للدولة، واستثمار إيرادات الدولة بالشكل الأمثل، مع زيادة الإنفاق على برامج الحماية الاجتماعية التي تعين الفئات الأشد فقراً على تدبير احتياجاتهم من السلع الأساسية والمعيشية.