طوال السنوات الأربع الأخيرة، لم تتوقف أصوات محللي الأسواق عن التحذير من حدوث انهيار في سوق الأسهم الأميركية، بعدما وصلت تقييمات الأسهم إلى مستويات شديدة الارتفاع، وتوالى تحقيق العديد من المستويات القياسية، لكن ذلك لم يحدث إلا خلال النصف الثاني من مارس / آذار 2020، حين بدأ العالم يدرك خطورة وسرعة انتشار فيروس كورونا في الأراضي الأميركية، قبل أن تبدأ الأسهم في التعافي مع بداية الشهر التالي، ويتوالى تحقيق المستويات القياسية لعشرات الأسهم، كما لمؤشرات الأسهم الرئيسية.
وحتى وقت قريب، يتحرك مؤشر إس آند بي 500 في نطاق ضيق فوق ضعف قيمته عند ذروة الأزمة قبل ما يقرب من 19 شهراً، وما زالت الأصوات تحذر من حدوث موجة تصحيحية كبيرة.
ومع استمرار تعطل سلاسل الإمداد، واقتراب معدل التضخم من مستويات غير مشهودة منذ أوائل التسعينيات، وتجاوز سعر النفط الأميركي 80 دولاراً للبرميل، أي أكثر من ضعفي ما كان عليه قبل عامٍ تقريباً، وارتفاع سعر الغاز الطبيعي في الأسواق الأميركية بأكثر من تلك النسبة في أقل من ستة أشهر، وأكثر من أربعة أضعاف في أوروبا، تزامناً مع ظهور إشارات تباطؤ التعافي الاقتصادي الأميركي والعالمي، واستمرار صعوبة حصول بايدن على الميزانيات اللازمة لتنفيذ خططه لمساعدة الأسر وتجديد البنية التحتية وشبكات الإنترنت عريضة النطاق، تتعالى الأصوات مرة أخرى محذرة من تراجعات كبيرة في أسعار الأسهم، بينما ما زال البعض يأمل في "رالي"، أو موجة ارتفاعات جديدة، مع الاقتراب من نهاية العام.
ومع نهاية الأسبوع الماضي، سجلت مؤشرات أسواق الأسهم العالمية ارتفاعاً أسبوعياً بنسبة 0.7%، بينما سجل مؤشر إس آند بي 500 ارتفاعاً بنسبة 0.8%، ليصبح على بعد 3.2% من أعلى مستوياته على الإطلاق الذي سجله مطلع الشهر الماضي، وارتفع عائد السندات الأميركية لعشر سنوات 13 نقطة، لينهي الأسبوع فوق 1.6% للمرة الأولى منذ يونيو/ حزيران، بعدما أوحى جيرومي باول، رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي للأسواق بإمكانية بدء عملية إنقاص Tapering مشترياته من سوق السندات الثانوية بعد انتهاء اجتماعات البنك القادمة المقرر عقدها يومي 2 و3 نوفمبر/ تشرين الثاني.
ولا يعد ارتفاع عوائد السندات خبراً جيداً للأسهم بصفة عامة، وتحديداً لأسهم شركات التكنولوجيا التي أصبحت تمثل نسبة غير قليلة من مؤشراتها الرئيسية، كونه يتسبب عادةً في تحول كميات ضخمة من سوق الأسهم إلى الاستثمار في سوق السندات.
والأربعاء، أظهر مؤشر أسعار المستهلكين ارتفاع معدل التضخم الأميركي أسرع من التوقعات خلال سبتمبر/ ايلول، حين سجل ارتفاعاً بنسبة 0.4% في حين كانت التوقعات 0.3% فقط، بسبب تعطل سلاسل الإمداد التي تسببت في تحميل المستهلكين تكلفة أعلى من المعتاد للعديد من السلع، وخاصة الغذاء، بالإضافة إلى ارتفاع إيجارات المنازل، الأمر الذي زاد من توقعات اقتراب البنك الفيدرالي من إنهاء سياسات التيسير الكمي التي بدأها قبل نحو 20 شهراً، وساهمت في تحقيق الارتفاعات الهائلة في أسعار الأسهم.
وبعد الإعلان عن أرقام المؤشر المعروف بكونه أحد أهم مؤشرات التضخم بالنسبة للبنك الفيدرالي، قال بنك "جي بي مورغان تشيس" أكبر البنوك الأميركية، إنه بدأ يشعر بالقلق من ارتفاع التضخم، محذراً من استمرار ارتفاع معدل زيادة الأسعار خلال 2022.
وخلال الإعلان عن أرباح البنك، قال جيمي دايمون، الرئيس التنفيذي، للمستثمرين والمحللين "على الأرجح لن نرى معدل التضخم السنوي تحت 4% خلال الشهور الستة القادمة". وأضاف دايمون، الذي يعد رئيس البنك الوحيد الذي احتفظ بمنصبه بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 - 2009 "نحن نستعد لكل الاحتمالات، وأحد هذه الاحتمالات هو أن التضخم قد يرتفع أكثر مما يتصور الناس".
ورغم المخاوف من التأثيرات السلبية لارتفاع معدلات التضخم والفائدة على الأسهم، وحدوث ركود تضخمي يقضي على آمال الانتعاش السريع، يتوقع البعض استمرار قوة معدلات النمو خلال الأرباع القادمة، مع تراجع معدل التضخم عن المستويات التي وصل إليها هذا العام.
وفي مذكرة لعملائه، اطلعت عليها "العربي الجديد" أكد مارك هايفيلي، مسؤول الاستثمار العالمي ببنك الاستثمار "يو بي إس" أن المخاوف من تأثير ارتفاعات أسعار الطاقة على معدلات نمو اقتصادات العالم مبالغ فيها، مؤكداً أن هذه الارتفاعات ليست كافية للتسبب في الركود بعد أن أصبحت مدخلات النفط في الإنتاج، كما تأثيرها على التضخم (نمو الدخل الحقيقي)، أقل اليوم مما كانت عليه في الماضي.
وضرب هايفيلي مثلاً لتأكيد وجهة نظره، إذ أشار إلى أن نسبة مساهمة النفط في الناتج المحلي الإجمالي العالمي انخفضت بنسبة 25% منذ عام 1990، وبنسبة تزيد عن 50% منذ أوائل السبعينيات، حين تسببت صدمات أسعار النفط في حدوث ركود. وأشار أيضاً إلى أن تكلفة وقود السيارات أصبحت تمثل حصة أقل من محفظة المستهلك مما كانت عليه في الماضي.
وأظهرت بيانات مكتب التحليل الاقتصادي، وهو مركز إحصاءات فيدرالي مستقل، أن استخدام البنزين شكل 3.26% من الاستهلاك الشخصي في عام 2014، وكانت أسعار النفط وقتها مقاربة للأسعار الحالية وتدور حول 80 دولاراً للبرميل، لكنه لا يمثل حالياً أكثر من 2.35% منه.
وبينما تقوم التحليلات السابقة على افتراض عدم حدوث أخطاء كارثية من صانعي السياسات الاقتصادية والنقدية في الاقتصادات الكبرى، سجل التاريخ وقوع مثل تلك الأخطاء في السابق، الأمر الذي تسبب في إحداث وإطالة حالات ركود كبيرة، وهو ما دفع البنك الفيدرالي الأميركي إلى التمهل كثيراً قبل البدء في إنهاء سياساته التوسعية خلال الشهور الماضية، فكان في كثير من الأحيان في نطاق قصف وانتقاد واضح من كبار الاقتصاديين، وعلى رأسهم الاقتصادي المصري الأميركي الشهير محمد العريان، الذي اعتبر، في أكثر من مناسبة، أن البنك الفيدرالي قد تأخر بالفعل في التحرك.
وبينما شدد البنك الفيدرالي على أن تقليص مشتريات السندات سيظل مرهوناً باستمرار تدفق البيانات الاقتصادية الإيجابية، قالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، قبل أيام: "لا ينبغي أن نبالغ في رد الفعل تجاه نقص الإمدادات أو ارتفاع أسعار الطاقة، لأن سياستنا النقدية لا يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على هذه الظواهر".
وخلقت الولايات المتحدة الشهر الماضي 194 ألف وظيفة جديدة وكانت التوقعات بأكثر من ذلك، وانخفض معدل البطالة إلى 4.8% من 5.2%، وما زالت البيانات المتضاربة تُبقي على احتمالية بدء الإنقاص مطلع الشهر المقبل، إلا أن مجلس إدارة بنك الاحتياط الفيدرالي أوضح أن هذا لا يعني رفعا فوريا في معدلات الفائدة.