استمع إلى الملخص
- يستعرض الكتابان الثاني والثالث دور الأردن في الأمن الخليجي، مبرزين مرونته في مواجهة التحديات الإقليمية، وأهميته كدولة فصل وشريك استراتيجي، بفضل سياساته الخارجية البارعة.
- تركز الكتب على التحديات الخارجية لدول الخليج، مشيرة إلى أهمية بناء منظومة أمنية متكاملة، وتعزيز التعاون مع الأردن لضمان توازن القوى، ودعم القضية الفلسطينية لتحقيق استقرار إقليمي.
في جديد الشأن الخليجي وتحولات المنطقة، أتيحت لي الفرصة خلال الأسبوع الماضي لكي أقرأ ثلاثة كتب. الأول موسوم بـ"الجانب الأمني للرؤى الخليجية: تطوير الدفاع مع متطلبات عصر التواصل"، أو بالإنكليزية " The Security Side of Gulf Visions: Adopting Defense to the Connectivity Age"، وهو من تحرير إليونورا ارديماني، ووضع مقدمة الكتاب باولو ماغري Paolo Magri. وقد صدر الكتاب في عام 2024. أما الكتاب الثاني فهو من تأليف الدكتور عدلي شحاده قندح الاقتصادي الأردني المثابر والدقيق، والذي عَنْوَن كتابه بـ"الاقتصاد الأردني والأزمات المالية والاقتصادية: القدرة على التكيف وتجاوز الأزمات 1921-2022، والصادر عن وزارة الثقافة الأردنية العام 2023.
الكتابان يتحدثان عن التحديات الأمنية التي تواجه الدول حيال الأحداث والتطورات الإقليمية والعالمية، وأسلوب بناء دول الخليج لمنظومتها الدفاعية والأمنية وهي تستعد لعصر ما بعد النفط المتوقع أن ينضب الطلب عليه بعد عدد من العقود، وكذلك يتحدث الكتاب الثاني من منظور أردني تاريخي عن تطوير قدرات الأردن على مواجهة التحديات الخارجية، ببرامج آنية طوارئية، علماً أن الأردن محدود الموارد الطبيعية القابلة للبيع. وذلك، خلال المائة العام الأولى من عمره السياسي بقيادة الأسرة الهاشمية.
الكتاب الثالث، والذي يُعْتبر قراءة نقدية في مسيرة الأردن الاقتصادية، من تأليف الدكتور جعفر حسان، رئيس الوزراء الأردني الحالي. وقد صدر عام 2020 موسوماً بـ"الاقتصاد السياسي الأردني: بناء في رحم الأزمات". مع التركيز على العقدين الأخيرين، أو منذ أن تسلم الملك عبد الله الثاني مقاليد الحكم في شهر فبراير/ شباط العام 1999. والكتاب يحدد المطبات والتحديات، ويسعى لتقديم حلول ناجعة لها. ولكنه يترك الانطباع لدى القارئ أن هذا البلد الفتي (أي الأردن) جاهز دائماً للانخراط في "النقد الذاتي" مذكراً إيانا بكتاب المفكر علال الفاسي من المملكة المغربية.
وللحقيقة، فإنه سبق لي أن تعاملت مع المركز الإيطالي، وقدمت فيه أوراقاً عن مفهوم الأمن في الأردن خاصة، والشرق الأوسط عامة. وقد وجدت بعد تعاملي معهم أنهم معهد أبحاث متطور ورصين، ويستحق أن تقرأ دراساته وأن تتابع أبحاثه.
ويتساءل الكتاب الذي يرى أن دول الخليج الست تأخذ في الاعتبار عند إعدادها للرؤى التمويلية التي تسعى لإنفاذها جوانب أمنية هامة، وأن التوجه الخليجي يجعل من التطور العلمي الحاصل في عصر التواصل ضرورة قصوى لضمان نجاح عملية التحول من مجتمعات رعوية " Rentier Economies" إلى مجتمعات إنتاجية.
وهذا التحول ينطوي على مرحلتين أساسيتين. الأولى هي استخدام عوائد النفط لبناء المنظومة الإنتاجية القادرة على تحويل المجتمعات عندما يبدأ النفط بخسارة موقعه مصدراً أساسياً للطاقة. والمرحلة الثانية هي بناء القدرات الإنتاجية الجديدة ذات الاستخدام المكثف للتكنولوجيا الحديثة، وبناء منظومات دفاعية أمنية جديدة لحصانة نتائج الرؤية ومكتسباتها من التهديدات المستجدة والناتجة عن ذلك التحول.
والمفيد ذكره هنا أن السياسة الخارجية لكثير من دول الخليج بدأت بالتحول. ولعل أهم اصطلاح يمكن الحديث عنه نوع التحديات الخارجية. فمن هذه التحديات ما يمكن تسميته بـ"اللامتماثل" أو "Asymmetrical" والذي يفرض تحديات أكبر من النوع الثاني وهو التحديات الأمنية التقليدية والناشئة عن المماحكات والتنافسيات مع الجيران "Conventional".
وقد مثلت حرب يوم السابع من أكتوبر والتي شنها الإسرائيليون على غزة واحداً من التحديات الكبيرة لدول الخليج. وفي رأي كثير من السياسيين والمحللين في دول الخليج أن هذه الحرب أتت مبكرة قبل أوانها لتشوش على خطط المنطقة في استكمال تنفيذ رؤاهم. ولكن، وعن غير قصد، قدمت الحرب أنموذجاً عملياً صارخاً على ما يجب على دول الخليج التركيز عليه لحفظ أمنها وأمانها في مرحلة التحول الكبير الذي تمارسه، وكيف يصب هذا الأمر في سياساتها الخارجية.
لقد رأينا أن دول الخليج سعت إلى تبني أدوار مختلفة إزاء هذه الحرب. فمنهم من عارض حصول الحرب في الوقت الذي صارت فيه لأنه شوش عليها خططها ورؤاها. وأخرى سعت لتلعب دور الوسيط الأمين من أجل وضع حد لهذه الحرب الدامية، لأن التوسع فيها ستكون له في رأيهم آثار خطيرة على نجاح التحول المرغوب فيه، وتدفع دول الخليج لكي تسابق الزمن من أجل ضمان أمنها المطلوب لإنجاز المرغوب. ودول ثالثة تبنت مفهوم "الحيادية الإيجابية" أو ما يسمى بالإنكليزية "Positive Neutralism" كما يشرح جودت بهجت في الكتاب الصادر عن ISPI.
لكن دول الخليج تدرك تماماً أن بناء منظومتها الأمنية والعسكرية يجب أن يعتمد على إعادة النظر في السياسات الخارجية وإعادة تنميط علاقاتها مع الدول المهمة في الجوار مثل إيران ومع إسرائيل، والأهم مع الولايات المتحدة وأوروبا. ومع أن الكتاب يركز على دور الولايات المتحدة وأوروبا في دعم التحول الخليجي إلى مجتمعات إنتاجية، لكنَّ قَصْر علاقات دول الخليج على هاتين القوتين (أميركا وأوروبا) لن يفي بالغرض في رأيي.
فقد توصلت السعودية ودول الخليج الأخرى إلى أن عدم إدخال روسيا إلى (مجموعة أوبك +) سيساهم في الحد من وصول النفط إلى أسعار تمكنها من "دوزنة" أو ضبط موازناتها الطموحة، ورأت كذلك أن الانتماء إلى مجموعة "بريكس" يعطي دول الخليج القدرة على استمرار تزويد الاقتصادين الثاني والثالث في العالم (الصين والهند) بالنفط الذي يحتاجان إليه حتى صارا أكبر سوقين للنفط الخليجي بما في ذلك إيران.
والاستمرار في التعاون مع الدول الآسيوية العظمى بخاصة الصين، لا يريح الإدارة الأميركية. ولربما تجد إسرائيل في هذا الأمر مدخلاً لها عن طريق استفزاز إيران للدخول في حرب طويلة الأجل، وفي هذا الصدد، لا مانع من إعادة ذكر الكتاب الموسوم "أن تخسر عدواً" لمؤلفه د. تريتا بارسي Trita Parsi والذي يقول فيه إن إسرائيل وإيران في حاجة إلى عداوة إحداهما للآخر لأنهما تحققان مكاسب على حساب الجهات الأضعف في الوطن العربي. وفي هذه الفرضية نسبة عالية من الصوابية، رغم أن تآلف العدوين لا يعني بالضرورة أنهما ينسقان معاً، ولا يعني أن المنافسة بينهما على النفوذ في المنطقة قد بلغت حد السيف.
فالمعضلة التي يواجهها الخليجي هي كيف تبيع النفط لدول في المحيطين الهندي والهادئ، بينما أنت تعتمد تكنولوجيا في بناء منظوماتك الدفاعية المتطورة على التعاون مع دول المحيط الأطلسي، وأعوانهما في المنطقة العربية؟
إن حجم اقتصاد دول الخليج الست هو 1.64 تريليون دولار، أو أقل قليلاً من إيطاليا. لكن حجم تجارة الخليجي مع الهند والصين يصل إلى حوالي 600 مليار دولار، وفي تصاعد. وفي هذين الرقمين يكمن سر التحول المطلوب في اقتصاديات دول الخليج ومجتمعاتها.
كتابا الدكتور عدلي قندح والدكتور جعفر حسان يتحدثان عن مرونة الأردن عبر الزمن لتجاوز تحديات المنطقة التي راوحت بين التحدي والتهديد والخطر الشديد، وهي تدل على أن ما واجهه الأردن يرتبط بدول الخليج. لكنّ للأردن أدواراً أساسية في الأمن الخليجي لا بد أن توضع أمام صناع القرار في هذه الدول.
أولها هو أن خريطة الأردن التي وضعها بيرسي كوكس في عشرينيات القرن الماضي قصد منها أن يكون الأردن دولة فصل لا دولة وصل. والأردن يريد أن يكون دولة شريكة أساسية في المنطقة ومستقبلها. وقد كان كذلك خلال قواه العاملة، ومساهمة جيشه في استقرار الدول الخليجية، رغم أنه يفتقد عناصر السيولة الأساسية وهي الماء والنفط والنقود، كما يحلو للدكتور منذر حدادين أن يقول.
ومن خلال هذين الكتابين نرى أن الأردن قد قاد سفينته بسياسات خارجية بارعة ومطوعة، جلبت له في بعض الأحيان غضب الأخ قبل الصديق. فهو لم يسمح بأن تكون أرضه وسيادته مباحتين للمتحاربين في المنطقة خاصة متى كان أحد أطرافها إسرائيل.
والخليج في حاجة إلى أن يكون الأردن محصناً أمنياً وعسكرياً لحماية حدوده ضد محاولات إسرائيل مستقبلاً للهيمنة على اقتصادات هذه الدول، أو عندما ترى إسرائيل أن دورها وسيطاً تكنولوجياً يؤهلها إلى أن تسود في المنطقة. والتخاذل في نصرة القضية الفلسطينية، أو في دعم الأردن، سيحول إسرائيل من تحدّ إلى خطر وتهديد لدول الخليج في المستقبل القريب.
وإذا كان المقصود بناء منظومة أمنية في حالة الوصول إلى حل سلمي في المنطقة، حتى ولو كانت مرجعيته المبادرة العربية التي أقرت في قمة بيروت عام 2002، فإن ضمان حفظ ذلك السلام، أو الحد من محاولات اليمين الإسرائيلي قد فرض هيمنته على دول الخليج، فإن الأردن هو أهم مساهم في إحقاق توازن يحد من الإفراط في تطلعات إسرائيل أو إيران في المستقبل.
على دول الخليج أن ترى نقاط القوة في الأردن من حيث قواه البشرية، وسمعته الدولية، ودوره الأساس في الوصول إلى تسوية شاملة مع إسرائيل، وفي إعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني. وما يزيد هذا الدور أهمية هو أن للأردن سجلاً طويلاً في مواجهة الأزمات الإقليمية والدولية بنجاح ترى فيه أوروبا والولايات المتحدة واليابان عنصر قوة كبيراً.
وإذا - لا سمح الله- استمر الانفراط في وحدة سورية أو العراق، ذات الحدود المشتركة مع الأردن، فإن المخاطر التي يواجهها الخليج ستزداد حدة. الأردن في عين الغرب دولة ناجحة في إدارة أزماتها، ولذلك هم يحترمونها ويسمونها حليفاً استراتيجياً. وقد حصل هذا كله خلال القرن الأول من عمر الأردن رغم شح الموارد. ولكن الأردن مقبل على اهتمام متزايد في منطقة استراتيجية من العالم.
إعادة تشكيل العلاقة الأردنية الخليجية على أسس أكثر تعاوناً وتداخلاً فيها مصلحة كبرى للطرفين.