منذ أكثر من 25 سنة زار مصر وفد من البنك المركزي الأسترالي وكان يضم معه خبراء في طباعة العملات النقدية، كان هدف الوفد الأسترالي هو إقناع السلطات المصرية بإدخال تعديل جوهري على طباعة البنكنوت المصري بحيث تتم طباعته من مادة البوليمار البلاستيكية بدلا من مادة القطن التي يتم استيرادها من الخارج، ومرتفعة التكلفة، ويتم استهلاكها بسرعة بسبب الضغط الشديد في استخدام العملة المصرية وسرعة دورانها لضخامة حجم السيولة بالأسواق.
ساعتها التقى الوفد بكبار المسؤولين في البنك المركزي ودار طباعة النقد ورؤساء ومدراء البنوك الحكومية، وغادر الوفد القاهرة دون أن يلتقي بالإعلام أو يكشف عن نتائج الزيارة.
ورغم حالة التعتيم تلك على الزيارة، فقد اقتنعت شخصيا بفكرة طباعة الجنيه المصري على ورق البوليمار، خاصة بعد أن تعرفت على تفاصيل الزيارة، وطالعت المعلومات والـ"بروشورات" التي تركها الوفد الأسترالي لقيادات البنوك المصرية، ولاحقا تعرفت على مزايا البوليمار من أحد خبراء العملات ومدير عام بأحد البنوك الكبرى خاصة من ناحية الأمان والقوة والنظافة والصحة العامة والحفاظ على البيئة.
كما أن الورقة النقدية المصنوعة من البوليمار قليلة التكلفة مقارنة بكلفة طباعة النقود الورقية والمعدنية، وطويلة العمر حيث تعيش سنوات، وعمرها الافتراضي أطول من النقود العادية بمعدل 5 أضعاف، ويمكن ثنيها وغسلها عشرات المرات، لذا تتحمل ضغط المستهلك المصري.
كما أنها صعبة التزوير والتزييف، وهذه نقطة مهمة في وقت تشهد فيه عملات العالم عمليات تزوير بما فيها العملات الكبرى كالدولار واليورو، إضافة إلى أن عملة البوليمار تصعب الكتابة عليها ومقاومة للمياه، والرطوبة والاتساخ لأنها مصنوعة من البلاستيك.
وزادت قناعتي بالبوليمار عقب لقائي مع مسؤول إدارة التزييف والتزوير بوزارة الداخلية في ذلك الوقت والذي أطلعني على عمليات التزوير الواسعة التي تتعرض لها عملات العالم المختلفة خاصة مع التطور الكبير في تكنولوجيا الطباعة والتصوير والنسخ والأحبار وأجهزة النشر المكتبي الحديثة.
وكذا شرح لي كمية الأمراض الخطيرة والميكروبات والجراثيم التي يتم نقلها عبر تداول البنكنوت بشكله الحالي في الأسواق على نطاق واسع خاصة بين باعة الأسماك واللحوم والخضروات والباعة الجائلين وتجار التجزئة والمحال التجارية، بل وأكد لي أن البنكنوت المتداول قد ينقل آثار المخدرات والبودرة من شخص لآخر، خاصة أن النقد الكاش متداول على نطاق واسع بين تجار المخدرات.
بعدها رحت أقرأ عن عملة البوليمار، فوجدت أن دولا كثيرة بعضها متقدم اقتصادياً تطبع عملاتها الوطنية من هذه المادة البلاستيكية منها أستراليا، أول دولة استخدمتها على مستوى العالم، بريطانيا، البرازيل، الصين، إندونيسيا، سنغافورة، كندا، فيجي، موريشيوس، نيوزيلندا، بابوا غينيا الجديدة، رومانيا، فيتنام، هونغ كونغ، سيرلانكا، تشيلي، تايلاند، الهند. وتعد الكويت أول دولة عربية تطبع عملتها بالبوليمار، منذ عام 2013.
ورغم كل هذه المزايا المتوافرة في ورق البوليمار، رفضت السلطات المصرية عرض البنك المركزي الأسترالي لأسباب غير معروفة حتى الآن.
ويبدو أن السلطات المصرية عادت بعد ربع قرن لتقتنع بأهمية وجدوى استخدام البوليمار في طباعة عملتها المحلية، لكن الغريب في الأمر أن هذه الخطوة المقرر تطبيقها بداية شهر يوليو المقبل تواجه عملية مقاومة من أطراف تحاول إشاعة الخوف في قلوب المصريين، وتربط بين خطوة تحديث طباعة البنكنوت المصري ومزاعم باستيلاء الحكومة على مدخراتهم، ووضع حدود على عمليات السحب النقدي، وإدخال تعديلات على السياسة النقدية ضمن عدد من الإجراءات البنكية الجديدة. والملفت أن مواقع التواصل الاجتماعي مليئة بهذه الخرافات التي لا يوجد دليل واحد عليها.
في تقديري، هناك أطرافا من مصلحتها الإبقاء على طباعة البنكنوت المصري بشكله التقليدي وأسلوبه الحالي المطبق منذ طباعة العملة المحلية والتي تعتمد على استيراد كميات ضخمة من أوراق البنكنوت المصنوعة من القطن من دول بأميركا اللاتينية، وهو بزنس ضخم حيث يصاحبه طرح مناقصات ولجان وتأمين وحراسة ونقل وشحن الورق المستورد الذي تعرض للسرقة في بعض السنوات أثناء نقله من الموانئ المصرية إلى مقر دار طباعة النقد بالجيزة.
طباعة الجنيه المصري من مادة البوليمار ستمثل طفرة في صناعة العملة المحلية، وستوفر مليارات الجنيهات التي يتم إنفاقها في عملية استيراد الأوراق النقدية التي يتم طباعة البنكنوت عليها، وسحب العملات الورقية التالفة من الأسواق في وقت لاحق وخلال فترة وجيزة، ومقاومة الأمراض التي يتم نقلها عبر تداول البنكنوت الملوث، وكذا اظهار العملة المصرية بمظهر لائق أمام السياح الأجانب.