البنك الفيدرالي والتضخم المستأنس

09 مارس 2021
ارتفاع معدل التضخم في أميركا بات وارداً بعد عودة الاقتصاد للنمو القوي (Getty)
+ الخط -

بعد أكثر من عشرة أعوام من الانتعاش المتواصل الذي بدأ في أعقاب الأزمة المالية العالمية، تلقى الاقتصاد الأميركي ضربة قوية حين وصل فيروس كوفيد-19 إلى الأراضي الأميركية، وفرض إغلاقاً واسعاً على أغلب قطاعات الأعمال، ففقد أكثر من 30 مليون أميركي وظائفهم، وتراجع النشاط الاقتصادي بأكثر من 30% خلال الربع الثاني من العام، قبل أن يعقبه ربع آخر من الانكماش، لتدخل الولايات المتحدة رسمياً في ركود اقتصادي غير معتاد.

وبعد أن كانت الإنجازات الاقتصادية أهم دعائم حملة ترشح الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب لفترة رئاسة ثانية، أرجع العديد من المحللين خسارته الانتخابات أمام الرئيس الحالي جوزيف بايدن إلى فشل الأول في الحفاظ على ما تم تحقيقه من نجاحات اقتصادية، بعد أن تكاتفت على المرشح الجمهوري المثير للجدل وإدارته أزمة طلب وأزمة عرض، كما شبح أزمة مالية كبرى.

ولعب مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، بعد خبرة 2008-2009 دوراً كبيراً في حماية البلاد من الوقوع في أزمة جديدة، إذ سارع إلى الدخول في سوق السندات مشترياً كميات ضخمة من إصدارات وزارة الخزانة كما سندات الرهون العقارية وبعض سندات البنوك والشركات الكبرى، الأمر الذي ساهم بفاعلية في تجنب انهيار أسعارها، ولعب دوراً في استعادة أسعار أسهم أغلب الشركات لجزء كبير مما فقدته، قبل انطلاقها لأعلى على النحو الذي شهدناه خلال النصف الثاني من العام الماضي والأسابيع الأولى من العام الجديد.

وبعد نجاح البنك الفيدرالي في تحقيق أهداف تلك المرحلة، تواجهه مهمة شديدة الصعوبة، وهي التعامل مع تضخمٍ يتوقعه الكثيرون، بعد تريليونات الدولارات التي تم ضخها لإنعاش الاقتصاد ومساعدة المواطنين الأميركيين، في وقتٍ يتراجع فيه الإنتاج في أغلب قطاعات الاقتصاد، وهي روشتة مضمونة النجاح لرفع معدلات التضخم، ويراها البنك الفيدرالي عرضاً جانبياً ضرورياً لمحاولات إنعاش الاقتصاد الجارية حالياً على قدم وساق.

واستقرت معدلات التضخم في الولايات المتحدة عند مستويات منخفضة خلال العقود الستة الأخيرة، فلم تتجاوز 2% في أي سنة خلال الفترة من 1960 حتى 1965، إلا أنها سجلت 6.4% في شهر فبراير / شباط من عام 1970، وكان أعلى مستوى وقتها.

وبعد حرب أكتوبر 1973، وتلقي صدمة استخدام سلاح النفط وارتفاع أسعاره بحدة، تجاوزت معدلات التضخم الأميركي 12%، فيما عرف بحقبة التضخم الكبير في السبعينيات من القرن الماضي، وصولاً إلى 14% أوائل الثمانينيات، قبل أن تعاود الانخفاض خلال السنوات التالية.

وخلال السنوات الخمس الأخيرة، شهدت معدلات التضخم الأوروبية ارتفاعاً تدريجياً، وأعلن البنك الفيدرالي الأميركي استعداده لتقبل معدلات أكثر ارتفاعاً، والتغاضي عن مستوى 2% الذي ظل مستهدفاً لسنوات.

ومع تزايد قلق المستثمرين في الولايات المتحدة خلال الأسابيع الأخيرة من ارتفاع معدلات التضخم، واصل البنك الفيدرالي الأسبوع الماضي جهوده الهادفة لطمأنتهم، والتأكيد على عدم وجود خطورة من ارتفاع مؤقت في معدل التضخم تزامناً مع الخروج من أزمة الوباء.

وفي ظروف من عدم التيقن مثل التي تشهدها اقتصادات العالم حالياً، لا تستمع الأسواق والمتعاملون فيها لصوت البنك الفيدرالي، وإنما تتوجه الأبصار إلى معدلات العائد على سندات الخزانة الأميركية لخمس سنوات، ونظيرتها المرتبطة بمؤشر التضخم، كونها تعطي صورة لتوقعات التضخم في الأسواق خلال السنوات المقبلة. وفي حين كان المعدل المتوقع قبل أقل من عام لا يتجاوز 0.15%، شهد الأسبوع الماضي وصوله إلى 2.45%، وهو ما لم يحدث في أي يوم خلال السنوات العشر الماضية على أقل تقدير.

ولم تقتصر إشارات قطار التضخم المرتفع على معدلات العائد على السندات، وإنما امتدت لتشمل اتساع الفجوة بين عوائد السندات طويلة الأجل ونظيرتها قصيرة الأجل، بصورة تعكس انصراف المستثمرين عن الاستثمار في الأولى، أملاً في الحصول على عوائد أفضل في المستقبل القريب. وبعد أن انخفض معدل العائد على سندات الخزانة لعشر سنوات في أحلك لحظات أزمة الوباء ليسجل 0.6%، ارتد الأسبوع الماضي أيضاً ليصل إلى 1.56%، مشيراً إلى تزايد التوقعات بارتفاع معدل التضخم قريباً.

ولا يحتاج الأمر لخبير اقتصادي لتوقع تأثير وصول مصل الوقاية من الفيروس إلى أعداد أكبر من المواطنين في الولايات المتحدة، وما سيترتب عليه من إعادة فتح المطاعم والمقاهي وربما الفنادق بصورة شبه كاملة، على زيادة الأسعار وارتفاع التضخم، إلا أن البنك الفيدرالي أكد مراراً أنه سيعمل على جعل تلك التغييرات محدودة، ولفترات مؤقتة، لا يلبث بعدها أن يعود التضخم لمستوياته المنخفضة المعتادة هناك. ويعتمد البنك في ذلك الأمر بالأساس على حدوث ارتفاعٍ موازٍ في الأجور، بصورة تضعف من التأثير السلبي للتضخم على المواطن الأميركي.

لكن المتابع للشأن الأميركي يلاحظ بكل وضوح تريليونات الدولارات التي تنفقها الحكومة الأميركية، من خلال حزم إنعاش متكررة، سيكون أحدثها واحدة بقيمة تصل إلى 1.9 تريليون دولار، تم إقرارها في مجلس الشيوخ بصورة نهائية وأرسلت مع بداية الأسبوع الحالي إلى مجلس النواب للتصويت عليها. هذه الحزم اقتربت من حجم ما تم إنفاقه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولم نسمع بإنفاق يقترب منها في أي وقت آخر.

ستصل الحزمة الأخيرة إلى الأسواق في وقتٍ يقترب فيه الأميركيون من السيطرة على الوباء، وتستعد فيه العديد من الولايات لرفع كافة القيود المرتبطة به، وهو ما يدعم استمرار معدلات البطالة في الانخفاض الذي بدأ منتصف العام الماضي، ويشجع المواطنين على إنفاق ما ادخروه خلال الفترة الماضية، ويقدره البعض بأكثر من 1.5 تريليون دولار أخرى، الأمر الذي يجعل دعم السلطات النقدية والمالية في أميركا ارتفاع معدل التضخم تجربة شديدة الخطورة.

تعدنا الظروف الحالية وقرارات السلطات لتضخم لم يعتده المواطن الأميركي، ولو استمرت أسعار النفط في الارتفاع الذي شهدناه منذ بداية العام، ربما نكون على موعد مع حلقة جديدة من مسلسل العجائب الذي يرفض أن يتوقف منذ بداية الألفية الثالثة.