"البالة"... كسوة فقراء مصر يصيبها الغلاء وسط أزمة الدولار

28 ديسمبر 2023
معظم الملابس المستعملة يجري جلبها من دول أوروبية وآسيوية وخليجية (العربي الجديد)
+ الخط -

تضاعفت أسعار الملابس المستعملة المعروفة في مصر بـ"البالة" والتي تعرض في أسواق الأحياء الشعبية والمتوسطة في مختلف أنحاء البلاد، بينما تعد ملاذ الفقراء الباحثين عن كسوة بأسعار تناسب قدراتهم خلال الشتاء والصيف.

ويعزو تجار "البالة" زيادة الأسعار إلى ارتفاع قيمة الملابس المستعملة في أسواقها التقليدية بأوروبا وأستراليا والصين ودبي في الإمارات، والقفزة الهائلة التي سجلها سعر صرف الدولار أمام الجنيه المصري في السوق الموازية حيث يتراوح ما بين 51 و53 جنيها للدولار.

فضلا عن مضاعفة الحكومة رسوم استيراد "البالة" من 300 ألف جنيه العام الماضي (حوالي 9700 دولار) وفق السعر الرسمي إلى 750 ألف جنيه (24.25 ألف دولار) لتجديد رخصة الاستيراد سنوياً، وفرض ضريبة بقيمة 100 جنيه على كل كيلوغرام من الملابس، عدا تكاليف إصدار التصاريح الصحية والأمنية لكل صفقة.

واعتاد المصريون التعايش مع ظاهرة ارتفاع الأسعار المتصاعدة، منذ سنوات، مع ذلك لم يخطر على ذهن أحد أن الملابس المستعملة، التي كانت ترسلها الكنائس والمنظمات الخيرية منذ سنوات قليلة مجاناً إلى الدول النامية، ومنها مصر، قد تحولت إلى صناعة واسعة، تتنافس عليها شركات دولية، لتحصل على أفضلها، بينما تأتي بالفتات إلى الأسواق المحلية.

من محل صغير في وكالة البلح على ضفاف نيل القاهرة في حي بولاق أبو العلاء، لبيع "بواقي" ملابس المتقاتلين في الحرب العالمية الأولي، زحفت تجارة "البالة" للملابس المستعملة على مدار سنوات طويلة، لكن هذا الزحف كان أكثر حدة خلال السنوات العشر الأخيرة، لتنتشر في الشوارع الرئيسية في العاصمة القاهرة والمدن الكبرى، وتجد طريقها مؤخراً إلى أحياء لطالما كان ينظر إليها على أنها مناطق الأثرياء والطبقات فوق المتوسطة مثل المعادي ومصر الجديدة ومدينة نصر.

يعكس تمدد تجارة الملابس المستعملة، تحولات اقتصادية كبرى، شهدتها البلاد، بعد أن ظلت منحسرة في البدايات بين محلين في الوكالة التي كانت لقرون ميناء لتوريد البلح إلى العاصمة، لتتحول بعد نحو نصف قرن، إلى مركز تجارة واسعة تمثل 10% من واردات مصر من الملابس الجاهزة.

عرفت الأسر طريقها إلى "سوق البالة" في وكالة البلح على استحياء، لشراء الملابس المستعملة، ليرتديها عمال المهن الشاقة، وسط تنمر اجتماعي على مرتديها ومعارضة من مصانع الملابس، التي رأت فيها تجارة خطرة على صناعات الغزل والنسيج المحلية، في دولة تنتج أفضل الأقطان.

تدفع معاناة المواطنين من التضخم المتصاعد، بمعدلات غير مسبوقة منذ نحو قرن من الزمن، تصل إلى 2% شهرياً، ونحو 40% خلال عام 2023 الذي يشرف على الانتهاء، إلى البحث عن بدائل لتدبير مأكولاتهم وملابسهم.

يؤكد رشيد عشرة، أحد تجار "البالة" في منطقة أهرامات الجيرة، تراجع حالة الزخم التي شهدتها تجارة الملابس المستعملة، قبل عامين، لارتفاع قيمة تصاريح الاستيراد، وتحجيم أعداد حاملي بطاقات الاستيراد، وقصرها على حاملي البطاقات في مدينة بورسعيد الساحلية، شمال البلاد، وزيادة قيمة الشحن والتخليص الجمركي، وندرة الدولار، بالإضافة إلى منافسة دول كثيرة على استيراد الملابس المستعملة من بينها غانا وجنوب أفريقيا ونيجيريا والمغرب.

يشير رشيد في مقابلة مع "العربي الجديد" إلى انخفاض لافت في المبيعات، حيث تأتي الأسر لشراء الضروريات من ملابس الأطفال، وقليل من احتياجات النساء، ونادراً ما يبحث الرجل عن شيء لنفسه، لافتا إلى أن تراجع القوة الشرائية للمواطنين دفع الناس إلى خفض النفقات إلا للضرورات التي باتت تتركز حالياً في توفير الطعام وملابس الصغار والتعليم.

يضيف التاجر أن ركود المبيعات جعله يغلق بعض معارضه، ويركز على المنتجات المطلوبة للسوق، في ظل عدم قدرته على توفير الدولار، والخوف من تقادم السلع وركود المبيعات، وتحقيق المزيد من الخسائر.

في مهد سوق "البالة"، حيث سيطرت محلات الملابس المستعملة على شوارع وكالة البلح، وامتدت إلى المناطق السكنية المحيطة بمقرات وزارة الخارجية والتلفزيون المصري وصحيفتي أخبار اليوم والأهرام الحكوميتين، حتى وسط العاصمة، رصدت "العربي الجديد" على مدار عدة أيام، إقبالاً ضعيفاً من المشترين.

يعرض الباعة الملابس الشتوية الثقيلة، على جوانب الطرق ومداخل المحلات، بأسعار محددة سلفاً. تبدي سيدة أربعينية تذمرها من عدم رغبة الباعة في "الفصال" (المساومة على السعر) أسوة بما كان يحدث في الماضي، فتقول لـ"العربي الجديد" نأتي للسوق مرتين، إحداهما لشراء الملابس الشتوية وأخرى للصيف، ولكن هذه المرة، الأسعار مرتفعة جداً، والأقسى أن التجار يرفضون المساومة على السعر، ويتمسكون بأسعارهم المكتوبة على كل قطعة.

تشير السيدة إلى عدم قدرتها على تدبير حاجتها من الملابس المستعملة لكل فرد بأسرة تضم 4 أبناء، حيث يتراوح ثمن "الجاكيت" أو "البالطو" الشتوي بين 400 إلى 600 جنيه (من 13 إلى 19.5 دولارا). تؤكد أن نفس الملبس كانت تشتريه بنحو 200 جنيه العام الماضي، عدا أن بعضهم كان بواقي مصانع وليس مستعملاً، منوهة إلى انتشار سلع مخزونة وقديمة.

يفضل التجار وضع أسعار على كافة المنتجات للهروب من الجدل المستمر مع الجمهور، مع إمكانية التنازل عن بعض المبالغ في حالة شراء عدد كبير من القطع. تبدأ الأسعار، من مستوى 120 إلى 160 جنيها لملابس الأطفال، و110 إلى 150 جنيها لبنطال الكبار و70 إلى 180 للبلوزة النسائية، و100 إلى 250 جنيها للبنطلون الجينز نسائي ورجالي، ومن 400 إلى 600 جنيه للجاكيت الشتوي.

تعرض محلات الملابس ما يطلق عليه التجار "سوبر كريمة" وهي بواقي معارض الملابس الدولية، التي تباع بالكيلو في مواسم التصفيات، وتحمل بطاقة البيع واسم ماركة مشهورة، وأخرى "الكريمة" تحمل اسم ماركة مشهورة، دون بطاقة البيع، وهما الأكثر إقبالاً في الشراء من الطبقة الوسطى وطلاب الجامعات.

تحرص المعارض على إقامة مزادات أسبوعية لبيع تلك النوعية الجيدة من الملابس التي تأتي ضمن صفقات "البالة" للملابس المستعملة، في حدود 20% من كمية الشحنة المستوردة، بما يرفع أسعار الملابس إلى مستويات خارج القدرة المالية للطبقة الوسطى.

تنظم المزادات بمحلات "البالة" التي انتشرت مؤخراً في مناطق المعادي ومدينة نصر ومصر الجديدة بالعاصمة وحدائق الأهرامات بالجيزة، وبورسعيد.

والمفارقة أن تجارة "البالة" غزت مناطق كانت توصف بقلاع صناعات الغزل والنسيج والملابس في السابق، إذ انتشرت الملابس المستعملة في مدينة المحلة الكبرى، أكبر مدينة لصناعة الغزل والنسيج في البلاد، وانتقلت إلى شبرا الخيمة في محافظة القليوبية شمال القاهرة، ولم يعد حضورها مقتصرا على مناطق الدلتا شمال العاصمة التي مثل طنطا والمنصورة، وإنما زحفت جنوباً حتى ترسخت مؤخراً في مدن بني سويف وسوهاج، مع اقترانها ببيع بواقي محلات الأحذية والملابس الرياضية، بما يعكس زيادة الطلب على تجارة "البالة"، رغم حالة الركود وارتفاع الأسعار والتكاليف.

يتنافس التجار على شراء "البالة" القادمة من أستراليا وإنكلترا وبلجيكا وهولندا لجودتها وارتفاع نسبة "السوبر كريمة" بها على حد وصف المستوردين، وتقل أهمية الملابس القادمة من فرنسا وإيطاليا والصين ودبي، لاحتواء أغلب الشحنات على ملابس مستعملة أو بالية. تظل قدرة التجار المحليين قاصرة على بيع ما يستطيعون جلبه من أسواق البالة الدولية، بدون وضع قيمة مضافة على الملابس، سوى الكي وتصنيف الشحنة، بينما يحصل التجار من الدول المنافسة، على الدرجة الأولى منها، مع إعادة تدوير بعض الملابس.

وبينما كان المقبلون على "البالة" يتعرضون لنوع من التنمر الاجتماعي في الماضي، فإن هذه النظرة تتبدل الآن في ظل تزايد عدد الأسر المقبلة عليها بفعل ضغوط الفقر، وارتفاع قيمة الملابس الجاهزة في المصانع والتي وصلت نسبة الزيادة فيها إلى مستويات حادة رسمياً هذا العام، وتراجع الجنيه مقابل الدولار من مستوى 15.7 جنيهاً في السوق الرسمية في مارس/آذار 2022، إلى 30.9 جنيهاً حاليا، في حين قفز في السوق الموازية إلى نحو 53 جنيهاً، وتدهور القوة الشرائية لدخل الأسر، بما يدفع بنحو ثلثي المواطنين إلى براثن الفقر، ويدفعهم جبراً نحو "البالة".

المساهمون