تشير العديد من التقارير حول العالم إلى تزايد احتمال سقوط الاقتصاد العالمي في براثن الركود. ورغم تشكيك الأميركيين، بدءاً من جانيت يلين، وزيرة الخزانة، وحتى الرئيس جو بايدن، في حتمية سقوط الاقتصاد الأميركي في براثن الركود، إلّا أنّ الشكوك تتزايد حيال قدرة هذا الاقتصاد على مواصلة النمو، وهو الأمر الذي يفسر توالي التحذيرات التي أصبحت شبه يومية وتصدر من مديري كبرى المؤسسات العالمية.
وطبقاً لتقرير الآفاق الاقتصادية الصادر أخيراً عن البنك الدولي، فإنّ تفاقم التباطؤ في وتيرة الاقتصاد العالمي بدأ يدخل فترة يمكن أن تصبح طويلة من النمو الضعيف والتضخم المرتفع، نتيجة لتعطل النشاط الاقتصادي والاستثمار والتجارة على المدى القريب، وضعف الطلب المكبوت، فضلاً عن إنهاء العمل بالسياسات التيسيرية التي انتهجتها البنوك المركزية لمواجهة تداعيات كورونا، الأمر الذي زاد من مخاطر الركود التضخمي، الذي من المؤكد تسببه في أضرار كبيرة على الاقتصادات متوسطة ومنخفضة الدخل على حد سواء.
ومما يثير الانتباه أنّ التقرير يقارن بين حالة الركود المتوقعة في الفترة القادمة والركود التضخمي الذي شهدته سبعينيات القرن العشرين، والتي تطلّب التعافي منها زيادات كبيرة في أسعار الفائدة في الاقتصادات الكبرى، وهو ما لعب دوراً بارزاً في إحداث سلسلة من الأزمات المالية في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، في إشارة واضحة لتصاعد أزمات تلك الدول خلال الأشهر القليلة القادمة.
وبناء على ذلك، راجع البنك الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي، فتوقع أن يتراجع من 5.7% في 2021 إلى 2.9% في 2022، وهي نسبة أقل بكثير من النسبة التي كانت متوقعة في يناير/ كانون الثاني والبالغة 4.1%، كما يتوقع أن يتابع النمو تأرجحه حول تلك الوتيرة خلال عامي 2023 إلى 2024.
وبالنسبة للركود فإن هناك عدة تعريفات له، أهمها التعريف الفني أو ما يعرف بـ"الركود الفني"، الذي يشير إلى تعرض الاقتصاد لانكماش الناتج المحلي الإجمالي خلال ستة أشهر على التوالي، ويعرّفه المكتب الوطني الأميركي للأبحاث الاقتصادية بأنه "تراجع كبير في أداء النشاط الاقتصادي يمتد إلى جميع القطاعات ويستمر لعدة أشهر".
لكنّ البنك وصندوق النقد الدوليين يعرّفان الركود العالمي بأنه العام الذي يتعرض فيه الفرد على مستوى العالم لانخفاض في دخله الحقيقي، وهو ما استخدم لوصف ما حدث في أعوام 1975، و1982، و1991، و2009، و2020.
أما الركود التضخمي فيشير إلى التضخم المصحوب بالركود، وهو مصطلح يجمع بين الكلمتين: الركود والتضخم؛ فهو يصف الاقتصاد الذي يعاني من خلل، حيث تستمر الأسعار في الارتفاع بينما ينخفض النمو الاقتصادي.
لا يمكن اعتبار المشاكل التي يمر بها الاقتصاد الأميركي في الفترة الحالية المتسبب الوحيد في موجة الركود المحتملة، وذلك انطلاقاً من المقولة الرائجة: "إذا عطس الاقتصاد الأميركي أصيب الاقتصاد العالمي بالزكام".
ورغم صحة ذلك إلى حد كبير، تجدر الإشارة إلى عدة مسببات أخرى للركود المحتمل وإن كانت مشاكل الاقتصاد الأميركي تشكل نسبة معتبرة من تلك الأسباب.
وتشير النظرة المتفحصة للاقتصاد العالمي حالياً إلى أسباب أخرى تشكل دافعاً لتسارع وتيرة الركود، أول الأسباب معاناة الصين من قيود تستهدف القضاء على متحور أوميكرون.
وتظهر دراسات من جامعة هونغ كونغ أنّ الإغلاق أسبوعين في المدن الكبرى مثل شنغهاي وبكين يكلف الصين 2% من ناتجها الإجمالي الشهري، في وقت بلغ فيه هذا الناتج في عام 2021 في المتوسط 9.5 تريليونات يوان (1.4 تريليون دولار)، بما يعني أنّ كلّ أسبوع إغلاق يكلف الصين 29.8 مليار دولار، لكنّ كلّ تلك الخسائر لم تمنع التنين الصيني من الإصرار على نهجه، ومن المؤكد أنّ تداعيات تباطؤ النمو الصيني انتقلت إلى الاقتصاد العالمي
كما تسببت الحرب الروسية على أوكرانيا في استمرار ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب الغذائية والزيوت حول العالم، الأمر الذي سبب فعلياً اضطرابات في الأسواق حول العالم.
ويشير الكثير من المحللين إلى أن الأمر الذي يجب مناقشته حاليا ليس ما إذا كان العالم يتجه نحو أزمة غذاء عالمية، بل حجم الأزمة "المتوقعة" وكيفية مواجهتها.
ولا شك أنّ ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء ساهم في رفع متتال لمعدلات التضخم في معظم دول العالم، وهو الأمر الذي يسهل القول باستمراره لا سيما في ظل امتداد أمد الحرب وانتفاء وجود إشارات حقيقية على الاقتراب من الحسم لأحد الطرفين أو حتى من الحل السياسي.
وبذلك، فإن ملخص الأزمة العالمية الحالية يكمن في معاناة الاقتصاد الأميركي من السياسة النقدية للفيدرالي التي قد تقضي على آمال التعافي بسبب الاتجاه لرفع الفائدة لكبح جماح التضخم، ومعاناة دول أوروبا من ارتفاع حاد في كلفة المعيشة بسبب أزمة الغزو الروسي لأوكرانيا، علاوة على معاناة الدول الأكثر فقرا من أجل تدبير إمدادات الغذاء والطاقة، وقد يصل الوضع فيها إلى حد المجاعات، بالإضافة إلى تداعيات الإغلاق الصيني.
وبعيدا عن الإعلان الرسمي عن وقوع الاقتصاد الأميركي في براثن الركود والذي يأتي عن طريق لجنة بحثية متخصصة غالبا لا تفصح عنه إلّا بعد مرور ما يقارب العام من السقوط الفعلي، فإنّه من الممكن التنبؤ بالركود الأميركي بناء على إشارات تاريخية بعينها، فمثلاً حين يرتفع التضخم فوق 4% وعلى التوازي تنخفض البطالة دون 4%، فذلك يعبر عن حالة من الإنهاك الكبير الذي ربما يتسبب في ركود في غضون عامين أو أقل، وهي أمور تحققت حالياً بالفعل، بل جرى تجاوزها.
وتشير قاعدة سام للركود الضحل والنمو الراكد إلى أنّه حين يرتفع المتوسط المتحرك لمعدل البطالة لفترة ثلاثة أشهر نصف نقطة مئوية من أدنى مستوياته، فإنّ الاقتصاد يكون قد دخل في ركود، وذلك بالطبع بخلاف المظاهر الفنية للركود والتي تبرز عندما يسجل الناتج المحلي الإجمالي لدولة ما انكماشاً بدلاً من النمو لربعي سنة متتاليين.
كما تتعدد أشكال الركود، فقد يكون عميقًا لكنه سريع، مثل ركود الجائحة الذي استمر شهرين أهدر خلالها 22 مليون وظيفة في الولايات المتحدة سرعان ما أعيدت مرة أخرى، كما أنه يمكن أن يكون عميقاً وممتداً، إذ يستغرق عقوداً تحتاجها سوق العمل حتى تتعافى، وقد يكون "ركوداً سطحياً" ينكمش فيه الاقتصاد بوتيرة منخفضة ولفترة محدودة نسبياً.
وبعيداً عن الإعلان الرسمي والقياسات الفنية والتاريخية، فإنّه بات من الواضح اتجاه الاقتصادين الأميركي والعالمي نحو السقوط في براثن الركود، وربما يكون الأكثر جدوى في الفترة الحالية فتح باب النقاش واسعاً حول شكل الركود وعمقه وكيفية مواجهته.