الاقتصاد الإسرائيلي وصموده الوهمي

30 اغسطس 2024
مظاهرة بوول ستريت مناهضة للاحتلال الإسرائيلي، 26 أكتوبر 2023 (أندرو ليشتنستين/ Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **وصف غير متناسب للحرب وتأثيرها الاقتصادي**: نتنياهو وصف الحرب على غزة بأنها "حرب وجودية" رغم الخسائر الاقتصادية المحدودة مقارنة بحرب أكتوبر 1973. التصنيف الائتماني الإسرائيلي لا يعكس التراجع الاقتصادي الحقيقي.

- **تأثير الحرب على الاقتصاد الزراعي والصناعي**: الحرب أوقفت الإنتاج الزراعي والصناعي في مستوطنات غلاف غزة وشمال فلسطين، مما أثر على توافر المواد الغذائية ورفع أسعارها. الحكومة اقترضت مبالغ ضخمة، مما رفع الدين العام المتوقع إلى 303 مليارات دولار في 2024.

- **تصنيف ائتماني مبالغ فيه ودعم غير مستحق**: وكالات التصنيف منحت الاقتصاد الإسرائيلي تصنيفاً ائتمانياً مبالغاً فيه رغم التراجع الاقتصادي. الدعم المالي والعسكري الأميركي والأوروبي المستمر يجعل من الصعب توقع توقف الحرب.

لا يتناسب وصف رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، الحرب الإجرامية التي يخوضها جيش الاحتلال ضد قطاع غزة والمستمرة منذ أكثر من عشرة أشهر، بأنها "حرب وجودية" وتدفع فيها إسرائيل "أثماناً باهظة"، لا يتناسب ذلك الوصف مع الخسائر الاقتصادية المحدودة التي تصرح بها الحكومة الإسرائيلية من حين لآخر، ولا مع التراجع الطفيف لأداء الاقتصاد الإسرائيلي الذي تعلنه وزارة المالية، ولا مع التصنيف الائتماني المنمق الذي تعلنه وكالات تصنيف الائتمان العالمية من وقت لآخر.

كما لا يعقل أن يصف نتنياهو عدوان جيش الاحتلال على غزة، الذي أودى بحياة 40 ألف مدني غزي، بالحرب الوجودية، في الوقت الذي لم تزد فيه أعداد القتلى والجرحى التي كشف عنها بالقطارة المتحدث باسم الجيش، دانيال هاجاري، بعد 324 يوماً من بداية الحرب عن 700 قتيل، منهم 332 قتيلاً فقط في الحرب البرية في غزة، لا سيما أن أعداد القتلى التي أعلنها الجيش الصهيوني في قطاع غزة لم تزد عن 25% من عدد قتلاه في حرب أكتوبر سنة 1973 وهي 2656 قتيلاً و7200 مصاب، وفق تقديرات الأرشيف الوطني الإسرائيلي. مع الأخذ في الاعتبار أن احتمال سقوط القتلى في غزة اليوم هو أعلى بكثير منه في سيناء والجولان في الماضي، نظراً لفاعلية الأسلحة التي تستخدمها المقاومة، وطبيعة المواجهة من المسافة صفر، وكثافة أعداد الجنود والآليات في مسرح العمليات الضيق في قطاع غزة.

مؤشرات وهمية لأداء الاقتصاد الإسرائيلي

كما يخفي الجيش خسائره البشرية ويقلل عدد قتلاه حفاظاً على معنويات الجنود وتماسك الجبهة الداخلية، تخفي المؤسسات المحلية والدولية مؤشرات تراجع أداء الاقتصاد الإسرائيلي الحقيقية، وتحاول تجميل الأرقام لتقديم الدعم المعنوي للاقتصاد بإعلان معدلات تراجع متواضعة رغم الخسائر الفادحة. فبعد 300 يوم من بداية العدوان على غزة، وبعد استدعاء 350 ألفاً من قوة العمل للتجنيد، أعلنت وكالة موديز على استحياء عن تخفيض التصنيف الائتماني لدولة الاحتلال درجة واحدة فقط إلى "إيه 2" بدلاً من "إيه 1".

ورغم توقف الإنتاج الزراعي والصناعي كلياً من مستوطنات غلاف غزة وشمال فلسطين، ونزوح 200 ألف مستوطن من تلك المستوطنات، توقعت وكالة ستاندرد آند بورز أن يصل العجز الحكومي العام إلى 8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، مقارنة بـ5.5% في عام 2023، وهو معدل ضعيف جداً، ولا يتناسب مع توقف الإنتاج المحلي، وزيادة الواردات الغذائية، والإنفاق العسكري والمدني المتأثر بالحرب.

بعد هجوم السابع من أكتوبر، توقف الإنتاج الزراعي في مستوطنات غلاف غزة التي تحتوي على 20% من الأراضي الزراعية في إسرائيل. ووفقاً لمقال نشر في صحيفة غلوبس في منتصف أكتوبر/تشرين الأول نقلاً عن رئيس اتحاد المزارعين الإسرائيليين، فإن 75% من الخضراوات المستهلكة في إسرائيل و20% من الفاكهة و6.5% من الحليب تأتي من منطقة غلاف غزة.

وبسبب هجمات حزب الله الصاروخية إسناداً لغزة، توقف الإنتاج الزراعي في مستوطنات الجليل والجولان في شمال فلسطين، حيث فر 65 ألف مستوطن من المستوطنات التي تحتوي على ثلث الأراضي الزراعية في إسرائيل، وفقاً لبيانات وزارة الزراعة والتنمية الريفية في دولة الاحتلال.

ورغم نقص المواد الغذائية، بسبب غياب العمال وتوقف الإنتاج الزراعي بنسبة كبيرة، وارتفاع أسعارها، وزيادة تكلفة إيجار المساكن، أعلنت دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، بعد أربعة أشهر من بداية الحرب، أن التضخم انخفض إلى 2.5%.

وبناء على ادعاء تراجع التضخم، قام بنك إسرائيل المركزي بتخفيض سعر الفائدة 2.5%، وليس رفعها كما هو متوقع، مع الإبقاء على هذه السياسة دون تغيير طوال عشرة أشهر من بداية الحرب، وظلت نسبة الفائدة من دون تغيير عند 4.50%، وذلك لأربعة اجتماعات على التوالي. وهي نسبة وهمية تعكس استقرار الأسواق، ورفاهية الأسر، وأداء اقتصادياً قوياً، في دولة تعيش أزمات الاقتصاد الإسرائيلي تحت ظلال حرب ثقيلة.

وخلال شهرين فقط من بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، اقترضت الحكومة إسرائيلية 22 مليار دولار من الداعمين الدوليين، وفق بيانات وزارة المالية الإسرائيلية. وفي شهر مارس/ آذار الماضي، اقترضت ثمانية مليارات دولار إضافية. وفي شهر إبريل الماضي، وافق مجلس النواب الأميركي على حزمة مساعدات لإسرائيل بقيمة 26.4 مليار دولار دون نقاش. وهو جزء بسيط من حجم الدعم الأميركي المعلن لتعزيز الاقتصاد الإسرائيلي الذي لولاه لانهار الأخير تماماً. ومن المتوقع أن يرتفع إجمالي الدين العام إلى 303 مليارات دولار في عام 2024، ما يعادل 67% من الناتج المحلي الإجمالي.

تصنيف مبالغ فيه لائتمان الاقتصاد الإسرائيلي

رغم زيادة القروض المعلنة والدعم غير المعلن، اجتمعت وكالات التصنيف الدولية، ستاندرد آند بورز وفيتش وموديز، لتجدد الثقة في اقتصاد إسرائيل، وتمنحه تصنيفاً ائتمانياً جديداً هو "إيه +". وهو تصنيف مبالغ فيه، ويتنافى مع الأداء الاقتصادي المتردي، والخسائر الفادحة الناتجة عن توقف دواليب الإنتاج في مختلف القطاعات، بسبب سحب العمال لساحة الحرب في غزة.

واستغل البنك المركزي هذه الشهادة، ورفع معدل الفائدة على السندات الحكومية، مرادف للقروض الحكومية، بمعدل 0.7% فقط، زيادة من 3.5% إلى 4.2%، وكان من المتوقع زيادة تكاليف الاقتراض أكثر من ذلك بكثير. ولم تتورع دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية عن الإعلان عن نمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من هذا العام بنسبة 14.1% على أساس سنوي.

وادعت دائرة الإحصاء أن هذا الانتعاش الحاد يرجع إلى عودة الاستثمارات في قطاع البناء العقاري السكني. وهو القطاع الذي أصيب بالسكتة الدماغية. وكل ما تعلنه الحكومة هي معلومات مغلوطة ومضللة. ذلك أن رئيس نقابة المقاولين الإسرائيليين، راؤول سارجو، كان قد بعث برسالة شديدة اللهجة إلى نتنياهو عقب الإعلان عن هذا الانتعاش، وحذره من أن شركات البناء تكابد ديوناً ضخمة، لسبب رئيسي وهو منع الحكومة 100 ألف فلسطيني يعملون في هذا المجال من دخول إسرائيل، ابتداء من يوم السابع من أكتوبر.

قطاع البناء هذا يمثل 14% من الناتج القومي الإسرائيلي، وفقاً لأرقام عام 2022، والشركات العاملة فيه عليها ديون تقدر بنحو 1.3 تريليون شيكل، تعادل 340 مليار دولار. وتراجعت مبيعات القطاع بنسبة 55% بعد الحرب، ما دفع اتحاد المصنعين الإسرائيليين إلى الإعلان عن خسارة الشركات مليار شيكل شهرياً، 267 مليون دولار، وفقاً لموقع يديعوت أحرونوت في شهر إبريل الماضي، ومطالبة الحكومة بإجراءات إنقاذ بدلاً من التضليل والتسويق لأكاذيب.

ما يكشف المبالغة في وصف أداء الاقتصاد الإسرائيلي المأزوم، بسبب الحرب في غزة، وحجم الدعم غير المستحق، أن وكالات التصنيف الدولية ذاتها، ستاندرد آند بورز وفيتش وموديز، خفضت تصنيف الاقتصاد الروسي العملاق، إلى درجة "سي" بعد شهر واحد فقط من الهجوم على أوكرانيا في فبراير سنة 2022. ولم تضع تلك المؤسسات المسيسة في اعتبارها أن حجم صادرات روسيا السنوي 330 مليار دولار، منها 200 مليار للغاز و80 مليار للبترول، وهي المصدر الأول للقمح والأسمدة في العالم، وهي التي تدفئ أوروبا وتطعم العالم خبزاً.

ونتيجة هذا التصنيف المجحف، اضطرت الحكومة الروسية إلى زيادة سعر الفائدة على السندات الحكومية إلى 20% دفعة واحدة، ارتفاعاً من 9.5% قبل الحرب، بالرغم من أن حجم الاحتياطي الأجنبي الروسي كان 600 مليار دولار في هذا التوقيت، ما يعادل ثلاثة أضعاف الاحتياطي الأجنبي الإسرائيلي الذي لم يزد عن 210 مليارات قبل العدوان على غزة.

عجز الاقتصاد الإسرائيلي لن يوقف الحرب

إذا قدر للحرب أن تتوقف في المدى القريب، فسيكون ذلك مدفوعاً بقدرة المعارضة في إسرائيل عن الكشف عن الخسائر البشرية الحقيقية في صفوف جيش الاحتلال أولاً، ثم بضغوط موجات نزوح المستوطنين من غلاف غزة والشمال والهجرة العكسية ثانياً، وبضغط أسر الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية ثالثاً. وقد قدرت مصادر عسكرية ذات مصداقية أعداد قتلى جيش الاحتلال بعد سبعة أشهر من العدوان ما بين 16 إلى 17 ألف قتيل.

والدليل على ذلك، ما صرح به وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، في جلسة مغلقة وسرب للإعلام أن لواء ونصفاً خرجا عن الخدمة، بسبب المعارك في غزة ما بين قتيل وجريح. مع العلم أن تعداد اللواء الواحد يتراوح ما بين 3 آلاف إلى 5 آلاف. وكذلك إعلان وحدة التأهيل داخل الجيش عن استقبال 10 آلاف ضابط وجندي جرحوا في غزة، بمعدل ألف جريح شهرياً، وإعلان غالانت في حديث صحافي في بداية شهر يوليو الماضي عن حاجة الجيش إلى 10 آلاف جندي، بسبب استنزاف قواته.

أما الرهان على وقف الحرب بسبب نزيف الاقتصاد الإسرائيلي في ظل الدعم المالي والعسكري الأميركي والأوروبي فهو مستبعد حالياً. وقد أعلنت وزارة الحرب الإسرائيلية، قبل أيام، عن استقبالها طائرة الإمدادات العسكرية رقم 500 ضمن الجسر الجوي من الولايات المتحدة منذ بداية الحرب، وعن استلامها أكثر من 50 ألف طن من الأسلحة والصواريخ والمعدات العسكرية من أميركا منذ عدوان السابع من أكتوبر، عبر 500 رحلة جوية و107 شحنات بحرية، فضلاً عن الدعم المستمر بالمعلومات الاستخبارية والأسلحة الذكية والغبية من الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا.

المساهمون