رغم الخضة التي شهدتها أسواق المال والمعادن العالمية يوم الأربعاء بعد خفض وكالة فيتش العالمية تصنيف الدين السيادي الأميركي طويل الأجل درجة واحدة إلى "أيه أيه +"، مع نظرة مستقبلية مستقرة، إلا أن تلك الأسواق استردت استقرارها مع تأكيدات من مسؤولين ومؤسسات مالية وخبراء باستبعاد أن يكون لخطوة التخفيض آثار كبيرة على الاقتصاد الأميركي وتسعير سندات الدين الحكومية أو على أسواق المال.
ويدلل هؤلاء على ذلك بتراجع سعر الذهب يوم الخميس في أسواق المعادن الثمينة، وهو معدن الملاذ الآمن الذي يهرب إليه المستثمرون عند حلول الأزمات.
وحسب بيانات وكالة بلومبيرغ، انخفضت أسعار الذهب في تعاملات الخميس بصورة طفيفة وتم تداوله قرب أدنى مستوياته في ثلاثة أسابيع.
من جانبه، قال مصرف "بنك أوف أميركا" إنه ليست هنالك احتمالات حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة خلال الفترة المقبلة، وذلك ردا على مخاوف من تأثيرات قرار فيتش.
"بنك أوف أميركا": ليست هنالك احتمالات حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة خلال الفترة المقبلة، ردا على مخاوف من تأثيرات قرار فيتش
وفي ذات التوجه، قال محللون لوكالة بلومبيرغ، لا نعتقد أن خفض التصنيف الذي أعلنت عنه "فيتش" سيكون له تأثير على أسواق المال أو على سندات الخزانة الأميركية.
وقال كبير الاقتصاديين السابق في وزارة الخزانة الأميركية، بن هاريس: "لقد عانينا من خلل طويل الأمد ومنذ عقود من العجز في الميزانيات، لكن قرار فيتش لن يغير شيئًا".
على مستوى ردود فعل القطاع المصرفي الأميركي قال الرئيس التنفيذي لبنك "جيه بي مورغان" الاستثماري، جيمي ديمون، إن تخفيض وكالة "فيتش" التصنيف الائتماني طويل الأجل للولايات المتحدة "لا يهم في النهاية".
وأضاف ديمون في تصريحات لشبكة "سي أن بي سي"، أن قرار الوكالة "لا يهم كثيرًا" لأن السوق، وليس وكالات التصنيف، هو الذي يحدد تكاليف الاقتراض.
وتابع رئيس أكبر بنك استثماري في الولايات المتحدة: "من السخف أن تتمتع دول بما في ذلك كندا بتصنيفات ائتمانية أعلى من الولايات المتحدة عندما تعتمد على الاستقرار الذي أوجدته الولايات المتحدة وجيشها".
وشدد على أن الولايات المتحدة لا تزال الدولة الأكثر ازدهارًا على هذا الكوكب، وأنها الدولة الأكثر أمانًا عليه، على حد تعبيره.
تكرر المشهد داخل قطاع الأعمال الأميركي حيث قال الملياردير وارن بافت، إنه ليس قلقًا بشأن خفض "فيتش" تصنيف الولايات المتحدة، وأن ذلك لن يغير ما تقوم به مجموعته الاستثمارية بيركشاير هاثاواي.
وارن بافت قال، إنه ليس قلقًا بشأن خفض "فيتش" تصنيف الولايات المتحدة، وأن ذلك لن يغير ما تقوم به مجموعته بيركشاير هاثاواي
وأكد لشبكة "سي أن بي سي" أن هناك بعض الأشياء التي يجب ألا يقلق الأفراد بشأنها، وهذا واحد منها، وأضاف: "الدولار هو العملة الاحتياطية للعالم والجميع يعرف ذلك".
وأضاف بافت قائلاً: "اشترت بيركشاير سندات خزانة أميركية بقيمة 10 مليارات دولار يوم الاثنين الماضي، ونفكر حاليًا في ما إذا كنا سنشتري سندات لأجل ثلاثة أم ستة أشهر بقيمة 10 مليارات دولار الأسبوع المقبل".
وأشار الملياردير الأميركي الملقب بحكيم أوماها إلى أنه لا يتفق مع كل ما تفعله الحكومة الفيدرالية، ومع ذلك فإن هذا غير كافٍ لتغيير وجهة نظره بشأن سندات الخزانة الأميركية والدولار.
أما رئيس أبحاث السياسات الكلية لدى شركة ستيت ستريت غلوبال أدفيزورز، إليوت هينتوف، فقال إن تزايد عدم الاستقرار السياسي يعني أن "فيتش" لن تعيد تصنيف الولايات المتحدة إلى "أيه أيه أيه" في المستقبل المنظور.
وهينتوف كان ضمن فريق وكالة "ستاندرد آند بورز" الذي خفض تصنيف الولايات المتحدة في العام 2011، بعد نزاع طويل في واشنطن بشأن سقف الدين.
وأوضح هينتوف لشبكة "سي أن بي سي" قائلاً: "أعتقد أن الأمر لا يتطلب عبقرية تحليلية كبيرة لإدراك أن الوضع المالي للولايات المتحدة أسوأ بكثير مما كان عليه".
وعندما سُئل خلال المقابلة عما إذا كان من المرجح استعادة الولايات المتحدة تصنيف "أيه أيه أيه" الخالي من المخاطر من "فيتش" في أي وقت قريب، أجاب بـ"لا".
ويلاحظ أنه حينما خفضت وكالة "ستاندرد آند بورز" قبل 12 عاماً تصنيف الدين الأميركي، تراجعت أسعار الأسهم وباقي المؤشرات الأميركية، وساد الاضطراب أسواق "وول ستريت" المالية لمدة شهرين، ولكن سرعان ما عاد السوق لتعاملاته العادية.
ولاحظ محللون أن المستثمرين اندفعوا لشراء السندات السيادية الأميركية رغم خفض تصنيف سندات الخزانة، وهي الأداة المالية المفترض أن تكون أكثر تأثرًا بمخاطر الخفض.
في هذا الصدد، قالت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، مساء يوم الأربعاء، إن قرار "فيتش" لن يغير شيئاً. ما نعرفه جميعًا عن سندات الخزانة أنها ستظل الأصول الآمنة والسائلة البارزة في العالم، وأن الاقتصاد الأميركي قوي بشكل أساسي".
وفي الصدد ذاته، قال الخبير الاستثماري الأميركي، لورانس ليوبارد، في تعليقات نقلها موقع "زيرو هيدج"، إن ارتفاع الدين الأميركي يحدث في وقت تعيش الولايات المتحدة انخفاضاً في معدل البطالة ونمواً اقتصادياً لا يتسم بالركود.
السندات الأميركية التي تصدرها الخزانة العامة تعد من أهم أركان بناء النظام المالي العالمي الذي تهيمن عليه واشنطن عبر قوة الدولار والنظام المصرفي
ووفق خبراء، إن قرار "فيتش" لن تكون له آثار سلبية كبيرة على أسواق المال الأميركية لأسباب ثلاثة رئيسية، وهي أن سندات الدين الأميركية التي تصدرها الخزانة العامة تعد من أهم أركان بناء النظام المالي العالمي الذي تهيمن عليه واشنطن عبر قوة الدولار والنظام المصرفي، وبالتالي لا يمكن أن تدع واشنطن نظامها المصرفي ينهار بسبب تصنيف وكالة فيتش.
كما أن أميركا تستدين بالدولار الذي تطبعه في مطابعها، خاصة وأن الدولار هو العملة العالمية في التجارة واحتياطات البنوك المركزية العالمية، وبالتالي يرى خبراء أن هنالك استحالة في أن تعجز أميركا يوماً ما عن سداد ديون بعملتها وتطبعها في مطابعها. وتكلف طباعة الدولار نحو 12 سنتاً فقط.
يضاف إلى ذلك أن سندات الخزانة الأميركية البالغ حجمها 25 تريليون دولار، تعد الأكثر سيولة وطلباً من قبل الدول والبنوك المركزية والاستثمارية والشركات العالمية، إذ إنها السندات الوحيدة الخالية من المخاطر التي لا يدفع عليها صاحبها كلف تأمين، أو أن سعرها سينقص لدى البيع، لأنها تُشترى بالدولار وتُباع بالدولار مقارنة بسندات الخزانة في الدول الأخرى.
لكن ما هو الدين الأميركي؟ وما هي أسباب خفض تصنيفه؟
يعود ارتفاع حجم الدين الأميركي إلى تراكم عجز الميزانيات المتواصل خلال العقود الماضية. ومنذ العام 2001 تراكم عجز الميزانيات، أي زيادة الإنفاق عن الدخل الحكومي، ليصل إلى 32 تريليون دولار، حتى 16 يونيو/ حزيران الماضي، حسب بيانات مكتب الميزانية التابع للكونغرس.
وساهمت في تراكم هذا الدين الضخم ثلاث أزمات رئيسية، وهي أولا، أزمة المال العالمية في العام 2008 التي كادت أن تفلس القطاع المصرفي الأميركي، واضطر الكونغرس وقتها إلى إجازة حزمة تحفيز مالي ضخم لشراء السندات الفاسدة والمتعثرة وإنقاذ النظام المالي.
وثانياً، جائحة كورونا التي ضربت الاقتصادات العالمية واضطرت الدول إلى إغلاق النشاط الاقتصادي والتمويل عبر التيسير الكمي. وثالثاً، أزمة التضخم التي أدت إلى الزيادات السريعة والمتواصلة في الفائدة على الدولار وقادت تلقائياً إلى ارتفاع كلفة خدمة الدين الحكومي الأميركي، خاصة وأن جزءًا كبيرًا من الديون الفيدرالية أخذ لآجال استحقاق أقصر وهو يُدفع حاليًا بفائدة تقترب من 5.3%.
حسب اللجنة المسؤولة عن الميزانية الفيدرالية، وهي لجنة حكومية، دفعت الولايات المتحدة فوائد على الدين قدرها 475 مليار دولار
وحسب اللجنة المسؤولة عن الميزانية الفيدرالية، وهي لجنة حكومية، دفعت الولايات المتحدة فوائد على الدين قدرها 475 مليار دولار، أو ما يعادل 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي لخدمة الديون السيادية في العام 2022.
وحول الأسباب التي دعت فيتش إلى خفض التصنيف، قالت اللجنة الحكومية إنها تعود "إلى التدهور المالي المتوقع على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وعبء الدين الحكومي العام المرتفع والمتزايد مقارنة بالدول الرأسمالية الأخرى".
نفقات الحكومة الأميركية:
وفقًا لمكتب الميزانية التابع للكونغرس، من المتوقع أن يبلغ إجمالي النفقات الفيدرالية الأميركية في العام الجاري 2023 نحو 6.4 تريليونات دولار، أي بزيادة 81 مليار دولار عن العام الماضي. وتساوي هذه النفقات نحو 24 % من إجمالي الناتج المحلي.
وحسب بيانات مكتب الميزانية، من المتوقع أن يصل إجمالي مدفوعات الفائدة الحكومية على الدين الفيدرالي، والذي يحركه بشكل أساسي حجم الدين إلى نحو 663 مليار دولار (2.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) في العام 2023، بزيادة 39 في المائة عن 476 مليار دولار المسجلة للعام الماضي. ويرجع جزء كبير من النمو في تكاليف الفائدة إلى أسعار الفائدة المرتفعة، التي تم رفعها 10 مرات منذ أوائل عام 2022 من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي استجابةً لارتفاع التضخم.
وعلى صعيد النفقات الفيدرالية يتوقع مكتب الميزانية أن يزداد الإنفاق على الضمان الاجتماعي بنسبة 11 في المائة من 1.2 تريليون دولار إلى 1.3 تريليون دولار هذا العام، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تعديل تكلفة المعيشة بنسبة 8.7 في المائة اعتبارًا من يناير/كانون الثاني 2023، وهي أعلى زيادة في أربعة عقود. بالإضافة إلى ذلك، أدى تزايد عدد المتقاعدين وزيادة متوسط العمر المتوقع إلى زيادة نفقات الرعاية الاجتماعية.
وعلى صعيد الرعاية الصحية، يتوقع مكتب الميزانية ارتفاع نفقات الرعاية الطبية من 747 مليار دولار عام 2022 إلى 826 مليار دولار عام 2023 (بزيادة 10 في المائة) بسبب النمو في عدد المستفيدين، وكذلك ارتفاع تكاليف الرعاية الطبية.
بالإضافة إلى ذلك، يتوقع المكتب في تقريره أن تنخفض عمليات الاسترداد من مدفوعات الرعاية الطبية السريعة والمتعلقة بالجائحة لمقدمي الخدمات.
من المتوقع أن تصل الإيرادات الأميركية في العام 2023 إلى 4.8 تريليونات دولار، أو 18.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي
وبالنسبة لقروض الطلاب، من شأن التعديلات المقترحة حديثًا على خطط السداد المعتمدة على الدخل (IDR) لقروض الطلاب الفيدرالية أن تقلل مدفوعات القروض للمقترضين ذوي الدخلين المنخفض والمتوسط.
ويقدر التقرير أن ترفع ديون القروض الفيدرالية النفقات بنحو 71 مليار دولار في العام 2023. وتضمن العجز البالغ 1.4 تريليون دولار في العام الماضي نحو 379 مليار دولار تتعلق بإعفاءات قروض الطلاب التي أعلنتها إدارة بايدن في أغسطس/آب 2022.
ومن المتوقع أن تصل الإيرادات الأميركية في العام 2023 إلى 4.8 تريليونات دولار، أو 18.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا المبلغ أقل من دخل العام الماضي البالغ 4.9 تريليونات دولار، أو ما يعادل 19.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، المسجل لعام 2022.
وحسب تقرير في معهد بيترسون للدراسات الاقتصادية، يعود التراجع بالإيرادات إلى انخفاض إيصالات ضرائب الدخل.