لمَ اختار العالم عبر القرون أن يتخذ من الذهب عملة؟ لقد فعل ذلك عن علم لما يتمتع به هذا العنصر الثقيل والثابت في شكله وتركيبته من مزايا تجعله مستودعاً للقيمة، وقابلاً للتداول كوسيلة دفع مقبولة، وكوحدة قياس لأسعار العملات النقدية. واتخذت الأديان السماوية منه رمزاً للمادية المفرطة، وحرّمت استخدامه بغرض الاكتناز، وسمحت أن يكون إمّا حلياً للنساء ومهورهن، أو مستودع قيمة لا يجلب دخلاً، بل أرباحاً رأسمالية ناجمة عن ارتفاع قيمته.
ولما تحتَدُّ الأمور، وتسود توقعات مظلمة بحدوث حروب خارجية، أو فتن داخلية، أو اضطراب في تدفق السلع، نرى الذهب يأخذ مكانه كعنصر ثابت، ويزداد الطلب عليه كاحتياطي لدى الأسر والمؤسسات في حالة اضطروا إلى الهجرة، أو عندما لا يشعرون بالأمن والأمان. فالذهب يسهل نقله، وبيعه واستخدامه في كل مكان في الدنيا، حتى قبل تأسيس صندوق النقد الدولي، وقبل البنوك المركزية.
وحيث إن الوسطاء العرب في وسط آسيا هيمنوا على تجارة التوابل والشاي والورق والحرير والخشب والملح في العصور الوسطى. فقد أصروا على ألا يبيعوا أوروبا هذه السلع إلا مقابل الذهب والفضة، ما أدى إلى خسارة خزائن الحكومات الأوروبية مثل بريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وإسبانيا والبرتغال إلى حد الإفلاس. ولذلك نشطوا خاصة بعد سقوط الأندلس في إرسال البعثات الاستكشافية بحثاً عن طريق يوصلهم إلى الهند في المحيط الهندي بديلاً عن الوطن العربي.
وبسبب نقص المعلومات، رأينا فرديناند وإيزابيلا اللذين استعادا آخر معاقل العرب في الأندلس (غرناطة) يقومان بتمويل رحلة كريستوفر كولمبوس الإيطالي في نهاية القرن الخامس عشر لكي يسابق البرتغاليين في الوصول إلى الهند. ولكنه وجد نفسه يقود السفن الثلاث التي كانت معه إلى القارة الأميركية، ويسمي أهلها الأصليين هنوداً حُمراً ظناً منه أن وصل إلى الهند.
وتبعه كثيرون بعد ذلك بحثاً عما سماه الإسبان بمدينة الذهب (Eldorado) ورأينا المستكشفين ال
الإسبان الذين وصلوا إلى أميركا اللاتينية (المكسيك ودول أميركا الوسطى والجنوبية). وأطلق المؤرخون عليهم اسم "الكونكيستادورز" وكان من أبشعهم سيرة المدعو "هيرمان كورتيز" الذي غزا أراضي قبائل الآزتيك ( Aztec) في المكسيك، وأمعن فيهم قتلاً. والأسوأ منه كان فرانسيسكو بيزارو (Pizarro) الذي أخذ ابن زعيم (الإنكا) في البيرو رهينةً، وطلب ثمناً لإطلاق سراحه أن تملأ سفنه بالذهب. ومع هذا فقد قتل الرهينة بدون أي وازع أخلاقي.
حصل كل ذلك من أجل إرسال الذهب إلى إسبانيا لكي تبني لنفسها إمبراطورية، ولتعد أسطول الأرمادا (Armada) الشهير بسفنه الكبيرة، والتي خسرت معركتها مع بحرية ملكة إنكلترا إليزابيث الأولى عام 1588، لتفسح المجال لإنكلترا والمملكة المتحدة لكي تحكم البحار وتتحكم بالثروات.
الذهب ببريقه وإغوائه، صار في القرن العشرين يفقد بالتدريج هذا البريق. ولما ظهرت العملة النقدية وأصبحت أكثر تداولاً، كان لا بد من رسم علاقة واضحة بين الذهب والعملات الورقية.
وقد نتج عن هذه التحليلات قانون غريشام نسبة إلى لورد غريشام الذي عاش إبان حكم ملوك أسرة "تيودور" (القرن السادس عشر) في المملكة المتحدة. وفي عام 1860، وإبان حكم الملكة فكتوريا، أحيا الاقتصادي البريطاني هنري داننغ ماكلويد أفكار غريشام من جديد وشرحها بأسلوب حديث وأطلق على ظاهرة طرد العملة الرديئة للعملة السيئة من التداول اسم (قانون غريشام).
وفي الظروف التي كانت تعاني منها الدولة العثمانية من التضخم بسبب المبالغة في إصدار نقود ورقية، صارت تطبع المزيد من هذه النقود عندما كان يزيد دخلها من الذهب والفضة النقديين، ما راكم الضغوط التضخمية، وخلق بلبلة في التوقعات والأسواق خاصة في القرنين الثامن والتاسع عشر. وبدلاً من اعتماد ذهب "تروي" الخالص (عيار 24) كاحتياطي رسمي، صاروا يُصْدرون عملات نقدية مغشوشة مثل الليرة "العسملي" المجيدية. ولذلك عانى كل السكان تحت الحكم العثماني آنذاك من التضخم ومن زيادة الضرائب.
هذا جزء يسير من نظرات عابرة على تاريخ الذهب. والذي طوره الإنكليز إلى ما سمي "بمعيار الذهب" أو "Gold Standard" حيث ربطوا سعر الجنية الإسترليني بكمية من الذهب. ولما بدأ الاقتصاد البريطاني في التراجع، وتراجعت معه أهمية الجنيه الإسترليني اضطرت المملكة المتحدة إلى تخفيض سعره (أو رفع سعر الذهب) كما حصل في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1967. وقد هبط بعدها مرتين. وأدى في نفس الوقت إلى رفع سعر الدولار والذهب، مما فتح للدولار الفرصة التاريخية لكي يصبح العملة المهيمنة في الأسواق العالمية.
ويشهد العالم الآن توترات، ولنجعل بداية حديثنا اندلاع الحرب على أوكرانيا قبل أكثر من عام، حيث هبط سعر الذهب من 2070 دولاراً في بداية عام 2020 عند انتشار وباء كورونا إلى 1820 دولاراً قبيل اندلاع الحرب في أوكرانيا. أما سعر الذهب فيتراوح حالياً في حدود 2008-2012 دولاراً للأونصة بسبب الحرب الأوكرانية. وقد قام عدد من المؤسسات مثل بانك أوف أميركا بالتنبؤ بوصول سعر الأونصة الواحدة من ذهب تروي الصافي إلى 2400 دولار، وبعضهم توقع أن يفوق ذلك بكثير.
هذه المعلومات التي استقيتها من نقيب تجار الحلي والمجوهرات في الأردن السيد ربحي علان بدت أكثر معقولية عندما ذكرني أن سبب حفاظ الذهب على أسعاره بعد انتهاء كورونا حتى الآن هو قيام الصين بشراء الذهب وتخزينه كاحتياطي. ولعل الدافع الأساسي لقيام الصين بهذه العملية هو رغبتها بالانفكاك عن استخدام الدولار والعملات الدولية الأخرى والقابلة للتحويل مثل الجنيه الإسترليني والين الياباني واليورو (والدولار بالطبع) وسعيها للاستعداد لمستقبل أكثر أماناً بوجود مخزون عال من الذهب.
وقد يكون الدافع الآخر للصين هو ما بدأ بعض المحللين يقولونه على استحياء أن عالم المستقبل الخالي من العملة الورقية يتطلب الاتفاق على العودة إما إلى معيار الذهب أو إلى سلة عملات مقيمة بالذهب. ولهذا فإن تعزيز مخزون الصين يصب في هذه الخانة أيضاً، وهو العودة إلى نظام نقدي جديد يكون الذهب فيه عماداً أساسياً.
وقد يأتي وقت، إذا تخلى العالم فيه عن العملات الورقية للتداول، وتقبل فيه الولايات المتحدة العودة إلى مقترح الاقتصادي الأشهر في القرن العشرين (جون كينز Keynes) حين دعا في مفاوضات بريتون وودز إلى خلق عملة دولية جديدة اسمها البانكور (Bancor)، ولكن الوفد الأميركي رفض الفكرة وأصر أن يكون الدولار وليس الذهب وحده هو مقياس قيمة العملات.
ولكن صندوق النقد الدولي قام بعد إيقاف نيكسون قابلية تحويل الدولار إلى ذهب بإصدار ما سمي "بحقوق السحب الخاصة" التي تقيم بموجب سلة عملات أهمها الدولار، وتستخدم كوسيلة لخلق وسيلة تسوية للمدفوعات. أما هي نفسها لا تكون قابلة للتداول مباشرة. وبالحديث مع الدكتور عادل شركس محافظ البنك المركزي، أكد لي أن البنك قد اشترى كميات جيدة من الذهب. وأكد أن الأردن لا ينفرد وحده بهذا الأمر، بل إن جميع البنوك المركزية في العالم ضالعة في ذلك.
إذن، فالذهب النقدي يشهد طفرة كبيرة في الطلب عليه، ولكن هل يتناسب هذا مع الذهب السلعي، أو المجوهرات؟ من تجربة الأردن، فإن ارتفاع سعر الذهب أثقل كاهل المشترين الجدد، ولكنهم يرون في نفس الوقت أن ارتفاع السعر سوف يشهد ارتفاعات لاحقة مما يجعل الذهب السلعي مرغوباً فيه بسبب التوقعات بارتفاع سعره.
إن الاقبال على شراء الذهب، وهو سلعة غير مُدِرَّة للدخل، بل للربح الرأسمالي أو الخسارة الرأسمالية إن اشتُري عند وصول السعر ذروته. هذا الإقبال على الذهب إن استمر لأشهر عدة، ربما يعني أن التوتر في العالم سوف يزداد. وفلسطين وما حولها شهدت مظاهر حرب واحتجاجات لا تشي بأن المستقبل سيكون مطمئناً. والتوتر في بحر الصين، وفي أوكرانيا وما حولها وحول روسيا، تعمق هذه القناعة المستقبلية. بعد كل هذا، فإن الذهب خلال الأشهر القادمة سيرتفع.