الإجراءات الاستثنائية في مصر ليست حلاً

10 أكتوبر 2022
ندرة النقد الأجنبي داخل الأسواق سببت تراجعاً مستمراً في قيمة الجنيه (Getty)
+ الخط -

القرارات والإجراءات الاستثنائية ليست حلاً لأيّ أزمة اقتصادية ومالية... قد تكون حلاً طارئاً ومؤقتا، وإذا كانت هناك مشكلة أو أزمة فيجب معالجة السبب الأصلي لها، لا التغاضي عنها ودفن الرؤوس في الرمال، أو تعميقها عن طريق توتير السوق وإرباك المتعاملين فيه، أو التعامل بأسلوب تعسفي مع قضية اقتصادية وفنية.

هناك أزمة عملة في مصر لا أحد ينكرها، وهناك ندرة في النقد الأجنبي داخل الأسواق تسببت في حدوث تراجع مستمر في قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، وعودة السوق السوداء للعملة بعد اختفاء دام أكثر من 6 سنوات، وإرباك قطاعات حيوية مثل الصناعة والتصدير والأنشطة المختلفة من زراعة وشحن وتجارة وغيرها.

أحد أبرز أسباب أزمة العملة هو الإفراط الشديد في الاقتراض الخارجي خلال السنوات الأخيرة، وتراجع إيرادات النقد الأجنبي، خاصة بعد تفشي وباء كورونا واندلاع حرب أوكرانيا، وقبلها القلاقل السياسية والاضطرابات، وإساءة استخدام المال العام، بل وإهداره، والتوسع غير المحسوب في إقامة بعض المشروعات التي قد لا تمثل قيمة مضافة للمواطن والاقتصاد في الوقت الحالي.

حلّ أزمة العملة لا يكمن في وضع قيود على الواردات وتقييدها بشدة للمحافظة على الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي

من بين الأسباب أيضاً ارتفاع فاتورة الواردات خلال الفترة الأخيرة خاصة من الأغذية والوقود، واستمرار عجز الموازنة العامة والميزان التجاري، واتساع الفارق بين الصادرات والواردات.

وحلّ أزمة العملة لا يكمن في وضع قيود على الواردات وتقييدها بشدة للمحافظة على الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي، لأنّ هذا الحلّ أضرّ بالسوق والاقتصاد والأفراد كما رأينا في الفترة الأخيرة، ورفع أسعار السلع ومعدل التضخم، وعمق البطالة، وأثر سلباً على بعض الصادرات الخارجية، خاصة مع تعثر المصنعين والمنتجين في فتح اعتمادات مستندية بالبنوك، وصعوبة الإفراج عن المواد الخام في الموانئ، وصعوبة تدبير نقد أجنبي لتمويل واردات السلع الوسيطة اللازمة للصناعة، وارتفاع كلفة الإنتاج مع زيادة سعر الدولار بما فيه الدولار الجمركي.

والحلّ لا يكمن أيضاً في التضييق على المستوردين والمسافرين، ولا يكمن في تقييد استخدام بطاقات الائتمان في الخارج، ولا في خنق شركات الصرافة، فهذه إجراءات استثنائية لن تعالج أصل المشكلة.

العلاج يبدأ من وقف إهدار المال العام وسفه القروض الخارجية خاصة تلك الأموال التي توجه لتمويل إقامة فنادق فارهة وناطحات سحاب وأنهر صناعية ومدن ترفيهية ومدن ساحلية ومقار حكومية وغيرها.

شاهدنا كيف استطاعت تركيا إعادة الحياة لقطاع السياحة الحيوي خلال فترة وجيزة وتجاوز أزمتي وباء كورونا وحرب أوكرانيا

فالاقتراض فقط يجب أن يكون لأغراض محددة، منها تمويل واردات الأغذية والوقود والمواد الخام والسلع الوسيطة الضرورية لأغراض الصناعة والإنتاج واستقرار الأسواق، أو لتمويل أنشطة تدر عائدا بالدولار مثل مشروعات السياحة والتصدير.

ثم إنّ الأمر يتطلب تنشيط القطاعات والأنشطة المدرة للنقد الأجنبي وفي المقدمة السياحة والصادرات والاستثمارات الأجنبية المباشرة.

وكلنا شاهدنا كيف استطاعت تركيا وإسبانيا والبرتغال وغيرها من دول العالم إعادة الحياة لقطاع السياحة الحيوي خلال فترة وجيزة وتجاوز أزمتي وباء كورونا وحرب أوكرانيا.

ولو نشط قطاع السياحة المصري فإنّ البلاد لن تكون بحاجة إلى قرض صندوق النقد الدولي أو غيره من القروض التي بات الحصول عليها مهمة صعبة ومكلفة مالياً في ظلّ زيادة سعر الفائدة على الدولار والعملات الرئيسية وهروب الأموال من الأسواق الناشئة.

كما أنّ هناك ضرورة ملحة لطمأنة أصحاب المدخرات الدولارية حتى يعيدوا ما في حوزتهم من نقد أجنبي إلى مكانه الطبيعي وهو البنوك، وعدم تركه في البيوت و"تحت البلاطة" بسبب تعقيدات تمارسها بعض البنوك ضد أصحاب هذه المدخرات سواء في عمليات السحب والإبداع، أو بسبب مخاوف لدى هؤلاء مصدرها شائعات تنتشر من وقت لأخر عن إفلاس البلاد وتعثر القطاع المصرفي وضياع الودائع الدولارية، والملاحظ أن هذه الشائعات تصاعدت بشكل ملفت خلال الفترة الاخيرة مستندة لتجربة لبنان المريرة ووضع البنوك اللبنانية يدها على أموال المودعين.

على كبار مسؤولي السياسة النقدية أن يخرجوا للناس بمعلومات وأرقام ترد عمليا على شائعات تتحدث عن إفلاس محتمل لمصر

على كبار مسؤولي السياسة النقدية في مصر أن يثبتوا بشكل عملي أن البنك المركزي المصري ليس مصرف لبنان المركزي الذي تتجاوز خسائره 53 مليار دولار، وأن يخرجوا للناس بمعلومات وأرقام للرد عمليا على أي شائعات تتحدث عن إفلاس مرتقب للبلاد، أو تربط ما يحدث في مصر حاليا بما يحدث في لبنان منذ العام 2019، والتأكيد، عمليا، على أن الظروف التي تمر بها بنوك لبنان من خسائر تتجاوز 83 مليار دولار غير متوافرة في بنوك مصر ذات المركز المالية المستقرة، وأن وجود عجز في أصول البنوك المصرية بالنقد الأجنبي يقدر بنحو 20 مليار دولار لا يعني أنه يمر بحالة تعثر مالي أو خسائر مالية، وخاصة أن لديه مخصصات ضخمة تكفي لتغطية أي حالات تعثر أو ديون معدومة.

يجب على القائمين على القطاع المصرفي المصري أن يكونوا شفافين مع المودعين وأصحاب المدخرات، وألا يتركوا الناس نهباً للشائعات بشرط ألا ينطقوا إلّا بالصدق فقط حفاظاً على الثقة في القطاع الحساس، حتى لو تطلب الأمر الكشف عن أي معلومات تتعلق بأي خسائر أو عجز أكبر في الأصول بالنقد الأجنبي لدى البنوك تزيد عن العجز الحالي البالغ 20 مليار دولار.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

أيضا يتطلب الأمر طمأنة المصريين العاملين في الخارج بأن أموالهم المودعة في البنوك في أمان ومضمونة من قبل البنك المركزي، وكسب ثقتهم لتحويل أموالهم للداخل عبر القنوات الشرعية، وهي البنوك، لا تغذية السوق السوداء غير الرسمية. هؤلاء بحاجة إلى طمأنة عملية وواقعية، لا مجرد وعود مقدمة من الجهات المسؤولة وفي المقدمة وزارة الهجرة.

المساهمون