هي كالسراب أو الرمال المتحركة، تحسبها مالاً وما هي بمال، وتحسبها الحكومات المتعطشة للأموال ذهباً وثروات تضاف لاقتصاد البلد ومشروعاته وقطاعاته الإنتاجية بعد توطينها واستقرارها، وما هي بثروات حقيقية، بل هي أموال هائمة على وجهها، تبحث عن الربح السريع والمرتفع.
اليوم عندك وغداً عند غيرك، لا يستقر بها الحال، ولا تعرف لها مكاناً محدداً، تشد الرحال نحو الدول عالية المخاطر والتي تشهد أزمات مالية بحثا عن تحقيق عائد مغر في أقل فترة زمنية ممكنة. كما تشد الرحال للدول التي تعاني مشاكل اقتصادية أو مالية.
هي لا تعرف، كذلك، الأخلاق والأعراف المطبقة في إدارة الأموال، قلبها حديد وتعشق المخاطر وصناعتها التوتر، تغادر الدول التي توجد فيها إذا ما استشعرت خطراً سياسياً أو اقتصادياً أو حتى اجتماعياً.
أصحابها قنّاصو صفقات يصنعون من أزمات الدول الاقتصادية والمالية ثروات هائلة وبمليارات الدولارات، راهنت دول كثيرة على استقرارها بعد استقطابها وجذبها، لكن هذه الدول خسرت الرهان، ومعها خسرت الكثير من ثرواتها ونقدها الأجنبي.
إنها الأموال الساخنة، أحيانا تخدر الحكومات الشعوب بها عندما تخرج متباهية بنجاحها في جذب مليارات الدولارات من هذه الأموال خلال فترة زمنية قصيرة، لكن هذه الحكومات تصمت وترتبك عندما تنسحب هذه الأموال في لحظة باحثة عن فرصة ذهبية في مكان جديد يمنحها عائدا عاليا.
الأموال الساخنة، رهانها الأول على أدوات الدين الحكومية مثل السندات وأذون الخزانة، وكذا على البورصة، ذلك أن استثماراتها تنحصر في هذه الأدوات المالية قصيرة الأجل، ولذا هي أموال تصادق الحكومات والدول المتعطشة للسيولة وتلك التي تعاني نقصاً في النقد الأجنبي.
جاءت إلى مصر في مرحلة ما بعد تعويم الجنيه المصري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 وعقب رفع سعر الفائدة على الجنيه المصري لنحو 20% سنويا، وذهبت إلى الأرجنتين عندما رفعت سعر الفائدة إلى 40%، وقبلها ذهبت لدول كثيرة منها دول جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا بحثاً عن العائد المرتفع في أقصر فترة زمنية.
الأموال الساخنة هي أموال خطرة، بل شديدة الخطورة، لأنها تنسحب سريعاً في حال تعرضت الدولة التي توجد فيها لأي مخاطر سياسية أو اقتصادية. حدث ذلك عقب ثورة 25 يناير/ كانون الثاني في مصر، كما كانت تخرج عقب وقوع عملية إرهابية في البلاد.
كما تنسحب هذه الأموال من الدولة في حال حدوث أزمة عنيفة في البورصات الخارجية وأسواق المال الدولية. جرى ذلك عام 2008 إبّان الأزمة المالية العالمية، وعام 2009 عندما انهارت البورصات العربية، وعام 2010 عقب اندلاع أزمة الأسواق الأوروبية وتهاوي القطاع المصرفي في القارة العجوز.
الأموال الساخنة هي أموال كاذبة لا تفيد الاقتصاد، ولا تبني مصنعاً ولا تقيم مشروعاً إنتاجياً، ولا توفر فرصة عمل واحدة، ولا تحد من فقر أو بطالة أو تضخم، وتخطئ أي حكومة حينما تقيّم أدائها الاقتصادي بحجم تدفق هذه الأموال على البلاد، كما يخطئ بعضهم عندما يصنف الأوضاع الاقتصادية في بلد ما بناء على تدفقات الأموال الساخنة، لأن هذه الأموال لا تعبر عن تدفق رؤوس أموال أجنبية حقيقية أو نمو اقتصادي حقيقي.
في مصر مثلا، يخرج علينا وزير المالية عمرو الجارحي من حين إلى آخر، ويعلن عن نجاح الحكومة في جذب استثمارات زادت على 20 مليار دولار في العام الأول لتعويم العملة المحلية وتحرير سوق الصرف، بل ويزداد الفخر فخراً عند تجاوز الرقم حاجز 23.5 مليار دولار بنهاية إبريل/ نيسان الماضي، لكن تصمت الحكومة عندما ينسحب مليارا دولار من الأموال الساخنة في غضون أيام خلال الفترة الماضية ويتوجه جزء من هذه الأموال إلى الأرجنتين، والجزء الآخر إلى أسواق أخرى. وتصمت الحكومة أيضاً عندما يمتنع المستثمرون الأجانب أصحاب الأموال الساخنة، في بعض الأوقات، عن الاكتتاب في بعض أذون الخزانة المصرية المطروحة بسبب تراجع سعر الفائدة عليها.
في ظل مخاطر الأموال الساخنة، على الحكومة أن تسأل نفسها عدة أسئلة إذا ما أردت تفادي المخاطر الشديدة لهذه الأموال، من أبرز هذه الأسئلة:
- هل نجحت الحكومة في تحويل تلك الأموال الساخنة لاحقاً إلى استثمارات مباشرة توجه إلى مشروعات إنتاجية وصناعية؟
- هل استعدت الحكومة لمرحلة هروب هذه الأموال إلى بلد آخر، وهذا وارد، ليس بالضرورة بسبب قلق في الاقتصاد المصري، أو ظهور خطر، بل بسبب طبيعة هذه الأموال وحركتها السريعة؟
- هل يمكن لاحتياطي البلاد من النقد الأجنبي أن يتحمل خروج 21 مليار دولار مرة واحدة؟
- هل درست الحكومة تأثير احتمال انسحاب هذه الأموال على سوق الصرف الأجنبي وسعر الدولار، فالخروج يمكن أن يحدث "ربكة" في هذا السوق وقفزة في سعر العملات الأجنبية مقابل العملة المحلية كما جرى في الأيام الأخيرة؟
الأموال الساخنة وهمٌ، ولا يجوز لحكومة عاقلة الرهان عليها، فالرهان الحقيقي يكون على الاستثمارات المباشرة التي تأتي لتستقر في الدولة، جاءت لتؤسس مصانع وتدفع ضرائب وتوفر فرص عمل وتزيد الإنتاج، وبالتالي زيادة الصادرات، ولم تأتِ لتسبب اضطرابات في سوق الصرف وزيادة في سعر الدولار.