مع زيادة حالة الغموض داخل دولة ما، وظهور ما يسمى في علم الاقتصاد بحالة عدم اليقين، ينزعج المستثمرون سواء المحليون أو الأجانب، وتترد المؤسسات المالية العالمية في ضخ استثمارات جديدة داخل البلد التي توجد به، وهو ما يحدث في تركيا حالياً.
نعم، محاولة الانقلاب فشلت فشلاً ذريعاً على يد الأتراك، وبات حدوث موجة جديدة من الانقلاب أمراً مستبعداً في ظل بقاء المتظاهرين في الشوارع، والقبض على معظم المتورّطين في هذه المحاولة الانقلابية، والإجراءات السريعة التي اتخذتها الحكومة ضد الانقلابيين.
لكن تظل الإجراءات التي تقوم بها الحكومة التركية حالياً مصدر إزعاج وقلق للمستثمرين الأجانب بل وربما للمستثمرين الأتراك أنفسهم، خاصة مع الزيادة الضخمة في عدد الموقوفين المحالين للقضاء بسبب شبهات حول تورطهم في محاولة الانقلاب، والحديث عن عمليات "تنظيف وتطهير" واسعة داخل مؤسسات الدولة، خاصة الجيش والشرطة والقضاء، إضافة إلى تصاعد الانتقادات الغربية لاقتراح إعادة عقوبة الإعدام.
لقد قلت أمس إن اقتصاد تركيا تجاوز المرحلة الصعبة في تاريخه، وإن قطاعه المصرفي والمالي أثبت قدرته على مواجهة الأزمات العنيفة والمخاطر، وإن الليرة التركية صمدت رغم ضخامة عدد المشاركين في الانقلاب، والكشف عن محاولات لاغتيال رأس الدولة أردوغان، والإطاحة بالحكومة المنتخبة، بل والإطاحة بالتجربة الديمقراطية بالكامل.
كل ذلك حدث وبعث برسالة طمأنة شديدة للمستثمرين بأن اقتصاد تركيا متماسك، وأن البنك المركزي لديه من السيولة والاحتياطي الأجنبي ما يكفي لتلبية احتياجات الأسواق من النقد الأجنبي وزيادة، والأهم أنه أكد أن الديمقراطية يحميها شعب ملتف حول حكومته الشرعية ولا يقبل مطلقاً بعودة الانقلاب العسكري.
لكن في المقابل، هناك تحديات يمكن أن تهدّد الاستقرار الاقتصادي أو على الأقل تضعفه، فهناك مثلا حكومات ومؤسسات عالمية لا يهمها استقرار تركيا اقتصادياً ومالياً.
ولذا تغذي هذه الدول والمؤسسات الحملات الداعية لسحب الاستثمارات الأجنبية من البلاد تحت زعم زيادة المخاطر، وتثير الرعب وسط 36 مليون سائح زاروا البلاد في عام 2015 رغم الهجمات الإرهابية التي ضربت القطاع أكثر من مرة، وتثير كذلك القلق في سوق الصرف الأجنبي بخلق مضاربات وهمية وطلب غير حقيقي على الليرة التركية، كما تهدد نفسياً مستثمرين ضخوا استثمارات أجنبية مباشرة في البلاد تجاوزت 16.6 مليار دولار في العام الماضي.
وإذا كانت الحكومة تخوض معركة شرسة مع الانقلابيين، فإن هناك معركة أخرى في انتظارها مع المستثمرين الأجانب الذين بحاجة إلى رسائل طمأنة عملية، رسائل على عدم اتخاذ الحكومة قرارات تؤثر سلباً على مشروعاتهم واستثماراتهم وأرباحهم، وتقضي على حالة الغموض وعدم اليقين الحالية أو على الأقل تخفف من حدتها.
وكما أن تركيا في حاجة للاستثمارات الخارجية التي تساعدها على توفير فرص عمل جديدة والحد من البطالة وزيادة الصادرات والحفاظ على معدل النمو الحالية ودعم استقرار سوق الصرف، فإنها في المقابل بحاجة شديدة إلى هذه الاستثمارات وغيرها من مصادر النقد الأجنبي، خاصة أن احتياجاتها التمويلية تقدر بنحو 190 مليار دولار سنويا، توجّه لتمويل الواردات الخارجية خاصة الأغذية والوقود ومستلزمات الإنتاج والسلع الوسيطة وغيرها.
ولذا من مصلحة تركيا لملمة الأمور بسرعة حتى تستعيد أنشطة موارد النقد الأجنبي وفي مقدمتها السياحة والصادرات والاستثمارات الأجنبية المباشرة، خاصة القادمة من دول الخليج، عافيتها.