"اقتصاد الحرب" يفجر أزمة عمالة في روسيا.. مصانع الأسلحة الأكثر استقطاباً على حساب بقية القطاعات

09 نوفمبر 2023
أحد مصانع الأسلحة والمعدات الثقيلة في روسيا (فرانس برس)
+ الخط -

تدفع روسيا ثمن "اقتصاد الحرب" على أكثر من صعيد، وقد أفضى إلى أزمة عمالة تتعطش إليها الشركات، بعدما حرمت مصانع الأسلحة المزدحمة بقية الصناعات من عمال أصبحوا بمثابة عمالة نادرة بعد مغادرة الأجانب وتجنيد عشرات الآلاف.

إذ يستقطب الجيش الروسي ومصانع الأسلحة التابعة له عدداً متزايداً من العمال، في وقت تستعد موسكو لحرب طويلة في أوكرانيا، مما يترك القطاعات المدنية تعاني من نقص مؤلم في العمالة وزعزعة استقرار الاقتصاد الأوسع نطاقاً، بحسب ما أوردته "فايننشال تايمز" في تقرير لها اليوم الخميس.

في هذا الصدد، يقول رئيس شركة تعدين روسية كبيرة للصحيفة إن "سوق العمل ضيّق للغاية. والأمر لا يتعلق فقط بالتعبئة أو الأشخاص الفارين من روسيا. بل المشكلة الرئيسية هي إنتاج الأسلحة".

وقد ساعد نقص العمالة في الكشف عن نقاط ضعف الاقتصاد الروسي، والتي تتناقض مع الصورة الوردية التي يرسمها الكرملين.

وقد أشار الرئيس فلاديمير بوتين مراراً وتكراراً إلى ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي في روسيا، كدليل على سلامتها اقتصادياً وفشل الحرب أو العقوبات الغربية في إلحاق أضرار جسيمة بالبلاد.

لكن ثمة اقتصاديين يقولون إن الأرقام المعلنة تبعث على الارتياح بسبب الزيادات الكبيرة في الإنفاق الدفاعي، وتخفي مشكلات هيكلية يمكن أن تؤدي إلى زعزعة الاستقرار على المدى الطويل.

وروسيا ليست الدولة الوحيدة بين الاقتصادات الصناعية التي تعاني من سوق عمل ضيقة للغاية، كما أن حقيقة أن سكانها يتقدمون في السن ويتقلص عددهم لا تؤدي إلا إلى تفاقم النقص الحاصل الآن.

لكن الحرب تجعل أزمة روسيا أكثر حدة بشكل خاص. ففي العام الماضي، تم حشد 300 ألف رجل فجأة للقتال بعدما أوقفت أوكرانيا تقدم الغزو الروسي، بينما فرّ مئات آلاف آخرون، وغالبيهم من الشباب المتعلمين إلى الخارج لتجنب التجنيد الإجباري، وهو النزوح الذي أضر بشدة بقطاع تكنولوجيا المعلومات والقطاعات الأخرى التي تعتمد على العمالة ذات المهارات العالية.

وأدى قرار موسكو نقل الاقتصاد إلى حالة الحرب تحسباً لنزاع طويل الأمد إلى تفاقم الوضع، وفقاً لخبراء اقتصاديين ورجال أعمال روس. فمع عمل شركات الدفاع بكامل طاقتها لتزويد القوات المسلحة، تكافح الصناعات المدنية من أجل تأمين العمالة اللازمة لعملياتها.

في هذا السياق، يقول أستاذ الأبحاث في جامعة "بومبيو فابرا" في برشلونة روبن إنيكولوبوف إن "الدولة تحوّل مواردها المالية إلى قطاع الدفاع، والناس يتبعونها".

والمغري أنه يمكن إعفاء العاملين في قطاع الدفاع من الخدمة العسكرية، مما يجعل الوظائف في مثل هذه الشركات جذابة بشكل خاص للرجال الراغبين في تجنب التجنيد.

وانخفض معدل البطالة في روسيا إلى 3%، وهو أدنى مستوى له منذ 30 عاماً، الأمر الذي جعل الشركات تكافح من أجل العثور على عمال للصناعات كثيفة العمالة التي تهيمن على اقتصاد البلاد.

ومن الصعب تقدير المدى الدقيق للزيادات المرتبطة بالحرب في الإنتاج وفي عدد العاملين بقطاع الدفاع من خلال البيانات المتاحة الآن، لكن "شهدنا زيادة بنسبة بين 30% و40% في مؤشر مديري المشتريات بالقطاع العسكري والصناعات المرتبطة بها منذ يناير/كانون الثاني 2023"، بحسب ما قاله الزميل البارز غير المقيم في "مركز تحليل السياسات الأوروبية" بافيل لوزين.

من جهتها، قالت الحكومة الروسية، الشهر الماضي، إنها تهدف إلى إنفاق 10.8 تريليونات روبل (118 مليار دولار)، أو نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي، على الدفاع في العام المقبل.

وكان هذا 3 أضعاف المبلغ المخصص في العام 2021، وهو العام الأخير قبل الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا، كما أنه أكثر بنسبة 70% مما كان مخططاً له في الأصل لهذا العام، فيما يقول محللون مستقلون إن الأرقام الحقيقية ربما تكون أعلى إذا تم تضمين تقديرات النفقات السرية.

ويمكن العثور على أحد الأمثلة على نقص العمال في الطول المتزايد لأسبوع العمل في روسيا. فقد وصل إلى أطول مستوياته منذ عقد من الزمن، بحسب ما كتبه محللون في شركة "فين إكسبيرتيزا" FinExpertiza الاستشارية. فقد بدأ العديد من المصانع العمل بثلاث نوبات عمل، وهو ما يذكر بالزمن السوفييتي.

وقال أنيكولوبوف إن "سوق العمل الروسي والاقتصاد بأكمله يعملان بأقصى طاقتهما، وقد تم ضغطهما إلى أقصى طاقتهما، وببساطة لا يستطيعان إنتاج المزيد".

ففي منطقة نيغني نوفغورود، على سبيل المثال، أبلغت السلطات عن نقص غير مسبوق في العمالة، بحسب ما ذكرته الطبعة المحلية لصحيفة "كوميرسانت".

وانخفض عدد العاطلين عن العمل المسجلين بنسبة 27% في سبتمبر/أيلول، وكانت هناك 17 ألف وظيفة شاغرة في قطاع التصنيع في المنطقة. ومن بينها، ثمة 7500 وظيفة في الصناعات الدفاعية وكان الطلب يتزايد، مع إضافة 1600 وظيفة العام الماضي.

واعترف بوتين بالمشكلة هذا الصيف، قائلاً خلال اجتماع مع رؤساء الصناعات التحويلية في الكرملين: "بدأ نقص العمالة يؤثر بعض الشيء في أعمال الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم".

وفي سبتمبر الفائت، وصف وزير الاقتصاد مكسيم ريشتنيكوف نقص العمالة بأنه "أكبر خطر داخلي على الاقتصاد الروسي".

ويوافق قطب المعادن والتعدين أوليغ ديريباسكا على أن شركات الدفاع تجتذب عمالاً من قطاعات أخرى، قائلاً لصحيفة "فايننشال تايمز" إن "رأسمالية الدولة لديها التمويل ورأس المال والأوامر، وسوف تقوم بالتجنيد، وستتنافس".

ويرى ديريباسكا أن المشكلة الأساسية تتمثل في نقص الاستثمار في الأتمتة والتكنولوجيا، واصفاً نقص العمالة بأنه "ظاهرة مؤقتة. لا تعتقد أن ذلك بسبب الحرب. لا، إنه نقص الاستثمار".

وقد كانت هجرة الأدمغة الناجمة عن الحرب حادة بشكل خاص في مجال تكنولوجيا المعلومات، حيث فرّ العديد من كبار المبرمجين في روسيا من البلاد، وحتى الإعفاءات الخاصة من الخدمة العسكرية التي تم تقديمها للعاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات لم تعكس حال التدفق الحاصل عملياً.

وكشفت وزارة التنمية الرقمية في أغسطس/آب المنصرم، أن روسيا تعاني من نقص يتراوح بين 500 ألف و700 ألف عامل في مجال تكنولوجيا المعلومات، فيما قال أحد المديرين في قطاع الاتصالات إن كبار المهنيين "سلعة نادرة".

وحتى صانعو الأسلحة يشعرون بوطأة المشكلة رغم جذب موظفين من قطاعات أخرى، إذ يقول المسؤولون إن صناعة الدفاع تعاني من نقص يصل إلى 400 ألف عامل.

وتبحث شركة "روستيخ" Rostec الشاملة المملوكة للدولة والتي تضم منتجي الأسلحة الرئيسيين في البلاد وتوظف نحو 600 ألف شخص، عن مجندين جدد.

وقال رئيسها سيرغي تشيميزوف في مقابلة الأسبوع الماضي مع قناة "روسيا 24" الإخبارية الحكومية: "نحن نفتقر إلى الأشخاص، ونحن بحاجة إلى توظيف ما بين 25 و30 ألفاً".

وجاء هذا الاعتراف في أعقاب عشرات التقارير الإخبارية المحلية التي تذكر بالحقبة السوفييتية، حول انتقال العمال إلى مصانع الأسلحة، إذ "يتم تعيين الطهاة وأمناء الصندوق للعمل في المصانع العسكرية"، كما جاء في أحد التقارير.

ونقل تقرير آخر عن مدير الموارد البشرية في مصنع للطيران العسكري في سيبيريا أنه كان بحاجة إلى توظيف 3 آلاف موظف إضافي، مضيفاً أن "الحصول على التعليم العالي ربما يكون غير ذي صلة إلى حد ما الآن.. بصراحة عندك يدان ورجلان وعينان وأذنان؟ أهلا بك".

المساهمون