أكثر من 150 جامعة في الولايات المتحدة تدرّس اقتصادات الرياضة، أو ما يسمى "Sports Economics". وبحسب تعريف هذا الفرع من علم الاقتصاد، فإنه يختص باقتصادات الرياضة، ومدى التنافسية فيها.
وكان الاقتصادي الأميركي سيمون روتنبرغ (Simon Rottenberg) من أوائل، إن لم يكن أول من سلط الضوء على هذا التخصّص عندما نشر مقالاً عام 1956 بعنوان "غموض النتائج المفترضة"، أو (Uncertainty of Outcome Hypothesis). وفيها بحث موضوع "التوازن التنافسي" بين الأندية الرياضية عن طريق توزيع الانتصارات في المنافسات الرياضية، بطريقةٍ تضمن عدم احتكار الأندية القوية للفوز باستمرار.
وقد كان من نتائج دراساته المحصورة في مجال "الاقتصاد الجزئي" أو "مايكروايكونومكس"، أن تدخلت اتحادات الألعاب الرياضية في تحديد قواعد اختيار اللاعبين وضمّهم للأندية، بحيث لا يبقى أي نادٍ محتكراً للاعبين المتميزين.
وهكذا بتغير تركيبة الفرق، تتغير حظوظ الأندية وفرصها بالفوز في البطولات. وعليه، تبقى الرياضة تنافسية، فيزداد إقبال الجمهور على مشاهدتها، لأن فريق كل مدينة كبيرة أو ولاية يبقى محتفظاً بفرصةٍ للفوز في المستقبل.
ويقدّر أن يصل حجم سوق الرياضة في العالم إلى ما يقارب 600 مليار دولار في عام 2025، علماً أنه كان حوالي 459 مليار دولار عام 2019. ولكنه، وبسبب عدوى كوفيد - 19، تراجع الرقم إلى 388 مليار في عام 2020، في تراجع تزيد نسبته على 15%. ولكن التوقع في نمو هذا السوق يصل، حسب المعدلات السنوية التراكمية (Compounded Annual Rate) إلى 3.5%.
ورقم يقارب الـ500 مليار دولار يشكل حوالي نصف في المائة من مجموع اقتصادات العالم، علماً أنه ينمو بتسارع أكثر من نمو الاقتصاد العالمي.
ورفعت مراكز أبحاث أخرى الرقم حيث قدرت دراسة للمركز المصري للدراسات الاقتصادية، حجم سوق الرياضة عالمياً بنحو 756 مليار دولار سنوياً، وفقاً لتقرير صادر عن الامم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، في مايو 2020، والذي يختص بدراسة الاثر الاقتصادي والاجتماعي لجائحة كورونا.
أما مجموع صناعة رياضة الفوتبول (كرة القدم) في العالم، فقد بلغت 1.89 مليار دولار في عام 2019، ومن المقرّر أن تصل إلى 3.7 مليارات عام 2027. وبحسب تقديرات المختصّين في هذا المجال، فإن نمو المعدل السنوي التراكمي من 2021-2027 سوف يصل إلى 18.3% سنوياً، أو حوالي ستة أضعاف النمو السنوي التراكمي في صناعة الرياضة الكلية في العالم.
وهذه الأرقام، رغم أنها منسوبة إلى جهاتٍ مختصّة فإنها لا تتطابق مع أرقام أخرى تنشرها المراجع نفسها، حيث يقدّر عدد عشاق رياضة كرة القدم في العالم بحوالي نصف سكان الكرة الأرضية، أو 3.5 مليارات شخص، وهناك 250 مليون يمارسون هذه الرياضة. وهي أكبر رياضة جاذبة في العالم، ويأتي بعدها في الترتيب كل من رياضة الكريكيت (2.5 مليار دولار) ورياضة كرة السلة (2.2 مليار دولار).
لا بدّ أن يكون حجم الدخل السنوي المتولِّد عن رياضة كرة القدم أكبر من الأرقام المتواضعة التي يتحدّثون عنها، لأن حجم اقتصاد كرة القدم، أكثر الرياضات شعبية وبدرجة كبيرة، لا يمكن أن يشكل سوى أقل من 1% من مجموع اقتصاد الرياضات العالمية كلها، إلا إذا قُصد بالرقم هو صافي أرباح الأندية الرياضية والنشاطات المتعلقة بها. وفي ظني أن مجموع اقتصادات كرة القدم في العالم تقارب مئتي مليار دولار على أقل تقدير، أو ما يساوي 40% من اقتصادات الرياضات كلها.
وتخدم هذه المعلومات في تسليط الضوء على أهمية مسابقة كأس العالم لكرة القدم 2022 التي ستعقد في الملاعب الثمانية التي أعدّتها دولة قطر لهذه الغاية وتقام في الفترة من 20 نوفمبر وحتى 18 ديسمبر المقبل. وكلها ملاعب متميزة، وتنطوي على أفكار مبتكرة جديدة ونظم هندسية تعكس ثقافة (وشخصية) دولة قطر ودول الخليج عامة والعالم العربي.
وقد بني أحد المدرجات، وهو استاد 974 الواقع بالقرب من مطار حمد الدولي، بالكامل من حاوياتٍ الشحن البحري ووحدات مستقلة من الصلب تستخدم لهذه الغاية، وهو أول استاد كرة قدم مغطى قابل للتفكيك بالكامل، وبعد انتهاء مباريات كاس العالم 2022 تفكّك الحاويات وتعاد إلى استخدامها الأصلي. وهناك ملاعب سوف يُتبرّع بأجزاء منها إلى الدول الفقيرة لتقام فيها مدرجات صغيرة تحتاجها هذه الدول وتفتقر إليها.
يحتفي هذا المكان الفريد من نوعه بالإرث البحري والتجاري العريق لدولة قطر. ولا يشير الرقم 974 فقط إلى رمز الاتصال الدولي الخاص بقطر، بل يرمز أيضاً إلى عدد حاويات الشحن البحري التي استُخدمت في بناء الاستاد. وهو يقع في منطقة الميناء قبالة المنظر الساحر للأبراج، حيث سيشعر المشجعون بالنسيم العليل القادم من الخليج العربي.
وحسب التقديرات، مجموع الإنفاق الذي بذلته دولة قطر من بُنىً تحتية، وطرق وأنفاق، وجسور، وفنادق، وأندية، ومولات تجارية ومطاعم، وملاعب ومدرجات، وأبراج ومترو الأنفاق وحدائق عامة ومدن سكنية منها لوسيل حوالي مئتي مليار دولار. وبالطبع، ستبقى غالبية هذه المرافق بعد كأس العالم لتوسّع آفاق السياحة بمختلف أنواعها في قطر.
والأهم من ذلك كله أنه سبق أن نجحت دولة قطر في وضع نفسها على خريطة العالم بمساحة أكبر من مساحتها الجغرافية بكثير من حيث التأثير وجذب الاهتمام والمساهمة في لعب أدوار سياسية وثقافية وترفيهية بفاعلية واقتدار.
وتأتي بطولة كأس العالم لتجعلها محط أنظار 3.5 مليارات مشاهد يتوقون لمتابعة مباريات كأس العالم. أي أن نصف سكان الكرة الأرضية سيبقون شهراً تقريباً يسمعون عن قطر، ويشاهدون معالمها، وينظرون ويتفكّرون في إمكاناتها وقدراتها التنظيمية لحدث عالمي بهذا الحجم، بعدما شُكك في قدرة دولة قطر على التصدي لهذا التحدّي الكبير.
وكيف لنا أن نعرف أثر كل هذه التفاعلات على مستقبل قطر الاقتصادي، ومركزها الأدبي العالمي، وموقعها السياحي، خصوصاً أنها تحقق المركز الأول أو مراكز متقدّمة في مؤشّرات عالمية كثيرة مثل الأمن، والاستثمار، والتنمية البشرية، والصحة، والفندقة والطيران، وحسن معاملة أهل قطر ضيوفهم.
من الصعب فلترة هذه الفوائد إلى أرقام قابلة للقياس، ولكنها ستدعم اقتصاد قطر، وستساهم كثيراً في تنويعه وتنافسيته.