اغتيال أرض مصر الزراعية بحجة النفع العام

14 يوليو 2023
مزرعة قمح مصرية على ضفاف النيل (Getty)
+ الخط -

في ندوة الاكتفاء الذاتي من القمح وحل أزمة الخبز في مصر، التي أقامتها بعد ثورة يناير النقابة العامة للزراعيين بنادي الزراعيين بالدقي، وأثناء تناول المتحدثين دور الولايات المتحدة في أزمة القمح المصري واتهامها بمحاربة زراعة القمح في مصر حتى أصبحت أكبر مستورد في العالم، مال عليّ برأسه الرئيس السابق لمؤسسة القمح الأميركي في القاهرة، والتي أغلقت مكتبها في سنة 2017 بعد أن أدت دورها بنجاح في التسويق للقمح الأميركي في مصر خلال عقود طويلة، وقال بدهاء وامتعاض، إن البناء على الأرض الزراعية في الدلتا، وليس أميركا، هو الخطر الأكبر على الأمن الغذائي المصري والتحدي الأكبر أمام المصريين للاكتفاء الذاتي من القمح.

تكونت الأرض الزراعية في وادي ودلتا نهر النيل عبر آلاف السنين. والبناء عليها هو أخطر تهديد للأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي في الريف والحضر والقرى والمدن. يعيش عليها 58% من الشعب المصري، ويعمل فيها 28% من القوى العاملة في الوجه البحري، وتوفر أكثر من 55% من فرص العمل في صعيد مصر، يرفدون الاقتصاد المصري بـ12% من الناتج القومي. ولأهميتها نص دستور سنة 2012 لأول مرة على أن تلتزم الدولة "حماية الرقعة الزراعية وزيادتها".

البناء على الأرض الزراعية أدى مع أسباب أخرى إلى تقويض الأمن الغذائي المصري، حيث أصبحت مصر الأولى عالميا في استيراد القمح، والثالثة في استيراد الذرة، وتستورد 95% من زيوت الطعام. وبلغ مقدار ما تم استيراده في سنة 2020، من القمح 13 مليون طن، والذرة 10 ملايين طن، وفول الصويا 4 ملايين طن، والبذور الزيتية وزيوت الطعام 5 ملايين طن، بإجمالي 32 مليون طن. كما أن إهدار 400 ألف فدان فقط من الرقعة الزراعية يعني خسارة 2 مليون فرصة عمل.

في سبتمبر سنة 2020 كشف رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، عن أن مصر فقدت 400 ألف فدان من أخصب الأراضي الزراعية منذ سنة 1983. وفقدت نحو 90 ألف فدان من الأراضي الزراعية خلال 9 سنوات بعد ثورة يناير. في المقابل، قال بيان وزارة الزراعة ممثلة في الإدارة المركزية لحماية الأراضي الصادر في أكتوبر سنة 2018، إن إجمالي مساحة الأراضي الزراعية التي تم الاعتداء بالبناء عليها منذ سنة 1983 وحتى ثورة يناير 2011 بلغ 103 آلاف فدان.

ما يعني أن إجمالي مساحة الأراضي الزراعية التي قام الأهالي بالبناء عليها بلغ 194 ألف فدان فقط. أما باقي المساحة فلا تذكر التقارير في أي نشاط تم إهدارها. ما يزيد الأمر التباسا، تصريح وزير الري، محمد عبد العاطي أمام مجلس النواب، أن البلاد خسرت ما يقرب من ٢ مليون فدان بسبب التعديات على الأراضي الزراعية.

منذ استولى على الحكم، رفع الجنرال عبد الفتاح السيسي شعار حماية الأراضي الزراعية من الاعتداء عليها. ونص في دستور 2014 على "تجريم الاعتداء عليها". وقام بتعديل قانون الزراعة ليشدد عقوبة الاعتداء على الأرض الزراعية واعتبارها من الجرائم المخلة بالشرف والأمانة، والتي تستوجب العزل من الوظيفة العامة والحرمان من الحقوق السياسية، بالإضافة إلى الحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على 5 سنوات وبغرامة لا تقل عن 500 ألف جنيه ولا تزيد على 10 ملايين جنيه.

واعتبر البناء على الأرض الزراعية خطرا يشبه في خطورته أزمة سد النهضة، وقال في شهر أغسطس 2020، إن التعدي على الأرض الزراعية والبناء عليها تحديات خطيرة أمام الدولة، وإنه سيطلب من الجيش التعامل مع الأزمة "إذا اقتضى الأمر". واعتبره سلوك هدم لقدرة الدولة، وتعهد في نهاية شهر سبتمبر 2021 بوقف البناء على الأرض الزراعية، وقطع الدعم عن المعتدي على الأراضي الزراعية بقوله "سيتم وقف كل الدعم من خبز وتموين لأي مخالف حتى انتهاء المخالفة، وإزالة المباني المخالفة بقوله "وكل شيء غلط هيتشال فيكي يا مصر طالما كنت في مكاني".

ودأب على اتهام المصريين بالاعتداء على الأراضي الزراعية بالبناء عليها، والجهل بقيمتها. وعندما استنكر عليه البعض إنشاء طرق دون جدوى اقتصادية وكباري جديدة على الأراضي الزراعية، رد بقوله إن الدولة حريصة على الحفاظ على الأراضي الزراعية خلال تنفيذ مشروعات الطرق والمحاور لأنها أرض خصبة وتتروي بالراحة. فهل كانت حماية الرقعة الزراعية سياسة اتبعها السيسي ونظامه خلال العقد الماضي كما يدعي أما أن العكس هو الصحيح؟!

في الواقع، يتعذر حصر قرارات نزع ملكية الأراضي الزراعية والصالحة للزراعة، وتحويلها إلى مجمعات سكنية أو وطرق وكباري، والتي وقع عليها السيسي بنفسه، رغم أنه يرفع شعار حماية الأراضي الزراعية وتجريم الاعتداء عليها.

على سبيل المثال، حيث يتعذر الحصر، أصدر قرار جمهوري رقم 233 لسنة 2016 ويقضى بتخصيص الأراضي الصحراوية بعمق 2 كيلو متر على جانبي 21 طريقاً جديدة، لصالح وزارة الدفاع واعتبارها مناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية. مع العلم أن غالبية هذه الطرق تم شقها وسط الأراضي الزراعية في الدلتا، المستصلحة، والقابلة للاستصلاح الزراعي ورغم أهميتها في سد الفجوة الغذائية.

وفي 2018، خصص السيسي 31 ألف فدان من الأراضي الزراعية المجاورة لمدينة السادات لإنشاء مدينة سفنكس الجديدة. وفي السنة التالية، أصدر قرار آخر برقم 61 لسنة 2019 بإلغاء القرار السابق وتوسيع كردون المدينة ليصل إلى 59 ألفا و417 فدانا. وفي السنة التالية، أصدر قرارا ثالثا برقم 566 لسنة 2020 بإعادة تعديل مخطط المدينة ليصل إلى 76 ألفا و931 فدانا. وكشف رئيس المدينة، نور إسماعيل، عن أن هذه الأراضي كانت في الأساس زراعية تتبع للهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية.

وفي سنة 2020، قام السيسي بتحويل أكثر من 70 ألف فدان من الأرض الزراعية المخصصة للهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية في منطقة الحزام الأخضر بالجيزة إلى القوات المسلحة وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لاستخدامها في الاستثمار العقاري وبناء مساكن عليها، بالقرار الجمهوري رقم 566 لسنة 2020.

من الطريف أن هذا القرار اشتمل على مساحة 15 ألفا و589 فدانا كانت قد نزعت ملكيتها بقرار سابق وضمها لوزارة الطيران المدني بحجة المنفعة العامة، ثم أزال السيسي صفة النفع العام عنها وضمها للقوات المسلحة. ما يعني أن قرارات نزع الملكية للنفع العام ما هي إلا مرحلة لتمكين المؤسسة العسكرية من الأراضي الزراعية لتحويلها إلى أغراض غير زراعية وإهدارها في الاستثمار العقاري.

وفي سنة 2022، أصدر السيسي القانون رقم 15 لسنة 2022 والذي يقضي بجواز تخصيص جزء من الأراضي التابعة للهيئة العامة للإصلاح الزراعي، ومساحتها تزيد على 900 ألف فدان، لتنفيذ مشروعات أو لإقامة منشآت ذات نفع عام. ونص القانون في مادته الأولى على أنه يجوز تخصيص جزء من الأراضي المستولى عليها بالمجان. كما يجوز إسقاط المديونيات المستحقة للهيئة العامة للإصلاح الزراعي على الجهات المخصصة لها الأراضي.

وفي 23 يناير/كانون الثاني الماضي أصدر قرارًا جمهوريًّا برقم 17 لسنة 2023 بتخصيص الأراضي الصحراوية بعمق كيلومترين على جانبي 31 طريقًا رئيسًا بطول 3 آلاف و696 كيلومترًا لصالح وزارة الدفاع. ويبلغ إجمالي مساحات الأراضي التي شملها القرار 14 ألفًا و784 كيلومترًا مربعًا، وتعادل نحو 3.7 ملايين فدان من إجمالي مساحة مصر الزراعية والتي تبلغ 9.3 ملايين فدان.

في 16 سبتمبر سنة 2020، قال مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، إن حجم الأراضي التي وقع على نزع ملكيتها بنفسه وتحويلها من النشاط الزراعي إلى عمراني بلغ 62 ألف فدان زراعة، وذلك أثناء افتتاح السيسي الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا بمدينة برج العرب.

وقال وزير النقل في حينه، هشام عرفات، إن الطريق الدائري الإقليمي بدأ تنفيذه في العام 2003، بواقع 49 كيلو متراً من إجمالي الطريق، الذي وصل إلى 400 كيلو متر في العام 2014، لافتاً إلى أن الطريق الدائري الأوسطي، والطريق الدائري الحالي، يبلغان إجمالاً 750 كيلو مترا.

كثير من الطرق والكباري التي أنشئت على الأراضي الزراعية في الدلتا يمكن الاستغناء عنها برفع كفاءة الطرق القديمة، لكن السيسي لم يفعل. الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة تسارع الزمن لإنشاء طرق جديدة، ويجتهد السيسي في افتتاح الكثير منها على فترات متقاربة. وقد اعترف صراحة بعدم ممانعته البناء على الأرض الزراعية بقوله "أنا بقبل إني أبني.. وحتى على أرض زراعية؟ أيوة طبعا، لكن أنا أخططلك الأرض.. وأبنيلك حتى لو كانت على أرض زراعية".

يضطر الفلاحون لارتكاب جريمة البناء على الأرض الزراعية بسبب تدني العائد الاقتصادي منها، وحرمانهم من الحق في تملك أراض بديلة للبناء عليها في الظهير الصحراوي، وليس بسبب جهل الفلاحين بقيمة الأرض الزراعية، والانفلات الأمني خلال ثورة يناير، والزيادة السكانية المطردة، وتقاليد الريف المصري الموروثة والترابط الأسري الذي يحتم على الآباء بناء منازل متجاورة لأولادهم على الأرض الزراعية للحفاظ على ذلك الترابط الموروث، كما يروج النظام.

كما أن رفع سعر الوحدات السكنية التي توفرها الحكومة أضعافا مضاعفة يحول دون إمكانية الانتقال للسكن فيها. أما التقصير في تخطيط مجتمعات عمرانية متكاملة، في الظهير الصحراوي، زراعية وصناعية، والتوسع في تحويل الأراضي الزراعية إلى طرق وكباري ومنتجعات سكنية باهظة الثمن فجريمة لا يمكن تبريرها.

المساهمون