- الحكومة المصرية تواجه صعوبات متزايدة بما في ذلك ارتفاع تكلفة الاستيراد، تراجع عائدات قناة السويس، وتدهور الجنيه، مما يدفعها لتنويع مصادر الطاقة والاعتماد على الطاقة المتجددة.
- تخطط مصر لرفع معدلات إنتاج الطاقة المتجددة إلى 60% بحلول 2030 وتشجيع الاستثمارات في استكشاف وإنتاج الغاز، رغم التحديات المالية والأمنية التي تواجه جهود تحفيز الإنتاج وتنويع مصادر الطاقة.
تعرضت آبار الغاز في مصر لاستنزاف سريع، لتتبدل الوفرة المأمولة التي تغطي الاستهلاك المحلي، وكذلك احتلال البلاد موقع الريادة في الإنتاج بمنطقة شرق المتوسط، إلى عجز ولجوء مقلق إلى الاستيراد، وسط اتساع رقعة انقطاع الكهرباء. وساهمت الشيخوخة المبكرة وجفاف الآبار، في عودة البلد الذي ظل يتظاهر بوجود وفرة لديه في الغاز خلال الفترة من 2015 إلى 2018 فقط، إلى الوقوف في طابور المستوردين، بينما تسعى الحكومة إلى تشجيع الشركات على زيادة الإنتاج، وتوفير السيولة من البنوك لسداد مستحقاتهم.
غادرت آخر شحنة من الغاز المصري المسال إلى بولندا منذ أيام، بينما تستعد الشركة القابضة للغاز "إي جاس" EGas التابعة لوزارة البترول لاستقبال شحنة غاز مسال مشتراة يوم 18 مايو/أيار الجاري، في مناقصة عاجلة، أجريت في 24 إبريل/ نيسان الماضي، بنظام الدفع الفوري، وسط تحول مصر إلى مستورد للغاز الطبيعي لمواجهة الاحتياجات المحلية.
تسعى الحكومة إلى مواجهة تزايد العجز الحاد في معدلات انقطاع التيار الكهربائي، حيث يحذر خبراء من اتساع أزمة انقطاع التيار. ويقدر محمد فؤاد البرلماني السابق وخبير اقتصاديات الطاقة، تعرض البلاد للإظلام المتقطع لمدة تصل إلى 5 ساعات يومياً في حالة عدم شراء الغاز بمعدل يصل إلى 3 شحنات شهرياً.
يأتي ذلك بينما تحصل دول غرب أوروبا المستورد الرئيسي للغاز المحلي والعالمي، على خصم بنحو 5 سنتات لكل وحدة حرارية، ستدفع مصر 15 سنتاً زيادة، على كل وحدة، لتأخرها في التحوط بالشراء المبكر لشحنات الغاز المسال لمواجهة مشكلة التراجع الحاد في الإمدادات، ما دفع الحكومة إلى قطع التيار الكهربائي لمدة ساعتين بالمتوسط يومياً، اعتباراً من 16 إبريل/ نيسان الماضي، قبل حلول فصل الصيف، لتوفير ما يقرب من مليار دولار سنوياً.
يرجع فؤاد زيادة التكلفة إلى تأخر الحكومة في قرار مواجهة أزمة الكهرباء رغم معرفتها المسبقة بتراجع إنتاجية الغاز في الآبار التابعة للشركات الدولية أو الشركات العامة التي تديرها الدولة. ويشكل الطلب على المحروقات مصدر قلق رئيسي في أسواق الطاقة العالمية، ما يدفع إلى سباق بين الدول لتأمين أكبر قدر من إمدادات الغاز المسال في أسرع وقت ممكن، رغم ارتفاع أسعار النفط والغاز، عن الأسعار السائدة قبل العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بما يلقي بمزيد من الضغوط على مصر، التي تعاني نقصاً حاداً في العملة الصعبة، مع تراجع بنسبة 60% من عوائد قناة السويس و30% من تحويلات المصريين في الخارج، وتدهور الجنيه، وارتفاع معدلات التضخم.
عجلت أزمة الغاز، بعودة انقطاعات التيار الكهربائي، عن المنازل والمصانع والشوارع، التي بشر محمد شاكر وزير الكهرباء، في مارس/آذار 2023، بأنها "ولت للأبد"، لكن سرعان ما تبدد ذلك بإعلان مصطفى مدبولي رئيس الوزراء في 27 يوليو/تموز من العام نفسه، عودة قطع الكهرباء، بسبب نقص الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء، التي تفوق قدرات التوليد بها ضعف الاستهلاك، وأنفقت عليها الدولة نحو 32 مليار دولار، خلال الفترة من 2015-2022.
ويراقب المحللون عن كثب عودة مصر لشراء الغاز من جديد، مع زيادة متوقعة في الطلب على الكهرباء بنسبة 8% سنوياً تدفع إلى زيادة باستهلاك الغاز المستخدم في توليد ما يربو على 70% من قدرات توليد مركبة بمحطات الكهرباء، تقدر بنحو 64 غيغا وات وتعطل محطتي تصدير الغاز المسال في دمياط وإدكو شمال مصر، عن العمل تماماً.
قدرت شركة "بريتش بتروليم" احتياطي مصر من الغاز عام 2021 بنحو 74.13 تريليون قدم مكعبة، بما يضعها في المرتبة 17 عالمياً، والثالثة في أفريقيا بعد نيجيريا والجزائر، لافتة إلى أن الإنتاج بلغ 71 مليار متر مكعب سنوياً والاستهلاك 65 مليار متر مكعب، توجه 60% منها لقطاع الطاقة. وأكدت دراسات الشركة البريطانية تراجع الإنتاج إلى 67 مليار متر مكعب عام 2022.
عززت المشروعات الجديدة إنتاج الغاز الطبيعي ليتحول من انكماش بنسبة 11% عام 2015 إلى نمو بنسبة 25% عام 2021، لكن هذا النمو تراجع بشدة عامي 2022 و2023 وسط ارتفاع الطلب المحلي، وتقلب الأسواق الدولية، والتفاف إسرائيل وقبرص على دعم مشروع مد خطوط الغاز إلى أوروبا عبر شبكة الغاز الوطنية، بما أحبط قدرة مصر على التحول إلى مركز إقليمي لتوريد وتجارة الغاز في شرق المتوسط. ويوكد خبراء الطاقة أن حقول البترول تتعرض لشيخوخة مبكرة للآبار، بسبب النزف الجائر، مع رغبة الحكومة في زيادة الصادرات البترولية للخارج، ظهرت جلية بعد تسلل المياه إلى آبار حقل "ظهر" في مياه البحر المتوسط شمال البلاد.
في مفاجأة قاسية الشهر الماضي، يراها الخبراء "حطمت آمال وزارة البترول"، وقعت مع اكتشاف شركة "شل" صاحبة امتياز حقل "أوريون" المكون من 6 آبار قريبة من حقل "ظهر" في البحر المتوسط، خلوها من أية آثار لإنتاج الغاز، بعد أعمال استكشاف وتنقيب استغرقت عامين. وظهر حقل "خوفو 1" وبئر "سيدي جابر" الواقعين ضمن منطقة امتياز "شل" في المياه العميقة، قبالة دلتا النيل في البحر المتوسط خاليين من غاز، ولم تظهر في الأفق اكتشافات جديدة، تعوض الدولة عن العجز الكبير في الإنتاج.
يرصد الخبراء انخفاض صافي الإنتاج الذي تستخرجه شركة "إيني" الإيطالية المستحوذة على حصة الأغلبية في حقل "ظهر" إلى أدنى مستوياته، في الربع الأول من العام الجاري بنسبة 12% على أساس سنوي و4% عن الربع الأخير من العام الماضي، والأدنى على مستوى 3 سنوات، لينتج 1.2 مليار قدم مكعبة يومياً بدلاً من 3.2 مليارات متر مكعب لعام 2021.
شيخوخة مبكرة لحقول الغاز
أدى تأخر مستحقات شركات الغاز والبترول الأجنبية، مقرونة بتداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة إلى خروج عدد من شركات البترول من مصر، وسط مخاوف أمنية ومالية وتوقف شركة "شيفرون" الأميركية عن استكمال أعمال الكشف في بئر "نرجس 1" الذي يبعد عدة كيلومترات عن حقل" ظهر" و60 كيلومترا عن سواحل شبه جزيرة سيناء الملاصقة لقطاع غزة. اكتشفت "شيفرون" احتياطيا يقدر بنحو 3.5 تريليونات قدم مكعبة في بئر "نرجس" وفقا لتقرير مجلة "ميس" Mees المتخصصة في أبحاث الغاز والطاقة.
وساهمت الشيخوخة المبكرة وجفاف الآبار، في عودة البلد الذي ظل يتظاهر بوجود وفرة لديه في الغاز خلال الفترة من 2015 إلى 2018 فقط، إلى الوقوف في طابور المستوردين، منذ عامين، تفاقمت وسط انخفاض إنتاج الغاز إلى 5.5 مليارات قدم مكعبة منذ مطلع العام الجاري، بينما تصل حاجة البلاد إلى حوالى 6.3 مليارات قدم مكعبة على الأقل يومياً. ودفع تقلب تدفق الغاز إلى شكوك في جدوى إنفاق استثمارات محلية ودولية، بقيمة 27.4 مليار دولار عبر 30 مشروعاً، مع توجيه الحكومة نحو 126 مليار جنيه لمشروعات البترول والطاقة، خلال السنوات العشر الماضية.
ركزت الحكومة طاقتها المالية لتشغيل حقل غاز "ظهر" الذي وفر للبلاد نحو 40% من احتياجاتها من الغاز منذ عام 2019، لكنه سرعان ما تراجع عن معدل الذروة، التي بلغها عام 2021، من مستوى 2.74 مليار قدم مكعبة يومياً إلى مليارين فقط. وتسببت المياه المتسربة في آبار "ظهر" إلى مزيد من التراجع في الإنتاج ليصل إلى نحو مليار قدم مكعبة يومياً في إبريل/ نيسان 2023، إلى 1.2 مليار متر مكعب الشتاء الماضي، من إجمالي إنتاج للدولة، الذي يقدر بنحو 6.54 مليارات قدم مكعبة يومياً.
وسجل مركز حلول للسياسات البديلة في الجامعة الأميركية بالقاهرة، في دراسة فنية تراجعاً في إنتاج الغاز خلال عام 2022، إلى 64.49 مليار متر مكعب بدلاً من 67.8 مليارا عام 2021، رغم تراجع الاستهلاك من 62.17 مليار متر مكعب 2021 إلى 60.75 مليارا عام 2022. وتوقفت الحكومة عن تصدير الغاز خلال صيف 2023، لتتمكن من مواجهة الطلب المحلي، حيث انخفضت صادرات الغاز المسال من يناير/كانون الثاني حتى 9 فبراير/شباط الماضي بشدة. فقد جرى تصدير 270 ألف طن متري فقط بنسبة انخفاض 64% عن الفترة نفسها من العام الماضي، الذي تمكنت فيه الدولة من تصدير نحو 3.7 ملايين طن متري، وفقا لتحليلات وكالة "ستاندرد آند بورز" للتصنيفات الائتمانية العالمية.
وتحولت مصر من مصدر للغاز إلى إسرائيل في صفقة "مثيرة للريبة" توفر لدولة الاحتلال 40% من احتياجاتها المحلية منذ عام 2003، إلى مستورد للغاز الإسرائيلي عام 2015، في صفقة طويلة الأمد تنتهي عام 2035، تستهدف توفير 5.81 مليارات متر مكعب من الغاز الإسرائيلي لمصر، لتسييله في المعامل المصرية وتصديره للخارج، والاستهلاك المحلي.
في الأثناء تأمل شركة الغاز الحكومية رفع معدلات استكشاف وإنتاج الغاز عبر أذرعها "دراجون أويل و"إينوك" و"الفراعنة" و"أتول" و"بدر الدين" و"عجيبة"، والتعجيل بتنمية الحقول المستكشفة، ومشاركة أطراف دولية في حفر آبار بحرية وبرية، على رأسها " إيني الإيطالية" و"بي بي" البريطانية "وشل" الهولندية و"شيفرون" الأميركية، لكن نقص التمويل وصرف مستحقات الشركاء وقفا حائلاً دون استكمال الأعمال طوال العام الماضي.
وبدأت الحكومة سداد المستحقات المتأخرة لشركات النفط والغاز الأجنبية العاملة في البلاد نهاية مارس/ آذار الماضي، حيث بلغت الدفعة الأولى 1.5 مليار دولار، بينما يقدر محللون المتأخرات لدى الهيئة العامة للبترول، لصالح شركات النفط الدولية، بنحو 8 مليارات دولار، بينما أشارت وكالة بلومبيرغ الأميركية في تقرير لها أخيراً إلى تراوحها بين 4 إلى 5 مليارات دولار، بسبب نقص النقد الأجنبي والعوامل الهيكلية المتعلقة بانخفاض الإنتاج المحلي من الغاز وارتفاع الاستهلاك المحلي، بما يقلل من صادرات الغاز من حصص الشريك الأجنبي، في وقت تعاني فيه الحكومة من نقص الدولار، فتؤجل دفع مستحقات الموردين.
تشجيع الشركات على زيادة الإنتاج
وتسعى الحكومة إلى تشجيع الشركات على زيادة الإنتاج، وتوفير السيولة من البنوك لسداد مستحقاتهم الدورية، وتخليص المتأخرات، دون التزام بسقف زمني محدد، مع سد العجز في توليد الكهرباء عبر رفع معدلات إنتاجها للطاقة المتجددة لتصل إلى 60% بحلول عام 2030، بالتوازي مع التشغيل الكامل للمفاعلات النووية في منطقة الضبعة (شمال غرب) بقدرة 4800 غيغا وات، والتي بلغت تكلفتها 30 مليار دولار. ويشير خبراء إلى وجود صعوبات في تنفيذ خطط الحكومة لتنمية الطاقة المتجددة، التي شهدت تراجعاً من قبل المستثمرين خلال السنوات الماضية.
يقدر محمد نعمان نوفل الخبير في شؤون الطاقة، العجز في الغاز المتاح لمحطات التوليد بحوالى 20%، مؤكدا أن التدهور في إنتاج الغاز في حقل "ظهر"، ومن قبله حقل غاز "دمياط"، يرجع إلى السياسات المتسرعة في الإنتاج، وعدم اتباع القواعد العلمية في تشغيل الآبار، وعدم ضمان سلامتها.
وطلبت الشركة القابضة للكهرباء من وزارة المالية ضمانها لدى بنكي الأهلي ومصر الحكوميين الأسبوع الماضي، في قرض قيمته 20 مليار جنيه لتأمين شراء احتياجات محطات الكهرباء من الغاز والمواد البترولية، خلال العام الجاري، ليرتفع إجمالي ديونها المحلية والدولية إلى نحو 550 مليار جنيه (11.5 مليار دولار). وبلغت قيمة واردات الوقود عام 2023، نحو 14.3 مليار دولار بانخفاض 11% عن عام 2022.
وخصصت الحكومة 154.5 مليار جنيه في موازنة العام المالي المقبل 2024/2025 (يبدأ في الأول من يوليو/تموز)، لدعم المواد البترولية، التي تشمل الغاز والمحروقات، بينما تتجه إلى رفع الأسعار للمستهلكين باتفاق مع صندوق النقد الدولي اعتباراً من يوليو/تموز القادم، بما يلغي المبالغ المخصصة للدعم خلال عامين. واستوردت الحكومة 45 مليون طن من الغاز و28 مليون طن من النفط الخام ومشتقاته، بنحو ملياري دولار خلال الربع الأول من العام الجاري، مستفيدة من دعم مالي خليجي ودولي بتمويلات تقدر بنحو 55 مليار دولار العام الجاري.
وقال محمد الحمصاني المتحدث باسم مجلس الوزراء في تصريحات إعلامية أخيراً إن الحكومة تمول صفقات شراء الوقود، مع مواصلتها قطع التيار لمدة ساعتين يومياً، في إطار سعيها لترشيد النفقات بالدولار، وتوجيه المخصصات إلى استيراد الأدوية والأعلاف ومستلزمات الإنتاج.