تداولت مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة صوراً مأساوية ومحزنة لنهر الفرات، أظهرت تراجع منسوب تدفق مياهه، ما أدى إلى انحسار المياه وظهور الأراضي الجافة في العديد من المناطق التي يمرّ بها النهر، وسط اتهامات لمشروعات السدود التركية القائمة، بالتسبب في الأزمة.
وأخيراً، أعلن "المرصد السوري لحقوق الإنسان" أنّ منسوب نهر الفرات انخفض بمعدل خمسة أمتار لأول مرة في التاريخ، بسبب حجب الجانب التركي مياه النهر، وحذّر من كارثة وشيكة تهدد حياة أكثر من 3 ملايين سوري يعتمدون على النهر في تأمين مياه الشرب والكهرباء والري.
مسار مياه نهر الفرات
ينبع نهر الفرات من تركيا، حيث يبدأ من محافظة إرزينجان، بعد اجتماع نهر مراد سو مع نهر قره سو، فتجري مياههما جنوباً مخترقة سلسلة جبال طوروس الجنوبية، ماراً بأراضي محافظات تونجلي، وألازيغ، وملاطية، وديار بكر، وأديامان، وأورفة، وغازي عنتاب، حتى يدخل الأراضي السورية عند مدينة جرابلس، شرق حلب.
وبعد دخوله سورية، يمر النهر في محافظة الرقة، وبعدها بدير الزور، ثم يخرج من الأراضي السورية عند مدينة البوكمال، ليدخل العراق عند مدينة القائم في الأنبار.
وبعدها يدخل إلى محافظتي بابل وكربلاء، ثم النجف والديوانية، فالمثنى ثم ذي قار ليدخل بعدها منطقة الأهوار جنوبي العراق، وفي الجنوب يتحد معه نهر دجلة فيشكلان شطّ العرب الذي تجري مياهه مسافة 120 كيلومتراً جنوباً لتصب في الخليج العربي.
اتفاقيات توزيع المياه بين دول الفرات
هناك عدة اتفاقيات حاكمة لتوزيع مياه نهر الفرات بين الدول الثلاث، فمن ناحية، توجد اتفاقية عام 1987 بين سورية والعراق التي التزمتها تركيا بإطلاق 500 متر مكعب من المياه في الثانية، يتقاسمها العراق وسورية، وهي الاتفاقية التي يرى الجانب السوري انتهاكها أخيراً بعد إطلاق تركيا 200 متر مكعب فقط في الآونة الأخيرة، ويبرر ذلك الجانب التركي بضعف الفيضان.
ومن ناحية أخرى، وقعت سورية اتفاقية مع العراق (دولة المصب) عام 1989 ونصت على أن تمرر سورية نحو 58% من مياه الفرات الواردة من تركيا إلى العراق وتحتفظ لنفسها بنحو 42% فقط، وبالطبع بعد انخفاض منسوب المياه المتدفق من تركيا صرحت "الإدارة الذاتية" التي تحكم مناطق شمالي وشرقي سورية بأنّها خفضت حصة الجانب العراقي.
السدود التركية على نهر الفرات
بدأت تركيا بناء سدودها على الفرات على طول مجراه الذي يقدر بـ 1176 كيلومتراً داخل أراضيها منذ عام 1973 بسد "كيبان" في ألازيغ، وتوالى إنشاء السدود التركية بعد ذلك، حتى أضحت 5 سدود هي "بغشتاش" في أرزينجان، و"كركايا" في ديار بكر، و"أتاتورك" قرب البيرة (برجيك غربي أورفة) و"قارقاميش" في غازي عنتاب. وأخيراً في فبراير/ شباط 2018، سد "إليسو" على نهر دجلة.
ويعتبر سدا "كركايا" و"أتاتورك" أهم السدود التركية على الإطلاق على نهر الفرات، فالثاني أهم وأكبر سدّ تركي وأوروبي، وهو خامس سدّ في العالم، ويتمتع بأهمية بالغة بالنسبة إلى تركيا، إذ يبلغ معدل سعته 48 مليار متر مكعب، وهي السعة التي تتجاوز نحو 650 سداً إيرانياً سعتها 46 مليار متر مكعب فقط.
كذلك أنشأت سورية العديد من السدود على نهر الفرات بهدف استدامة مياه الري وتوليد الطاقة الكهربائية وتربية الأسماك وتنظيم جريان النهر لمنعه من تدمير القرى والمزارع في أثناء فيضانه. وسدّ الفرات أكبر هذه السدود قاطبةً، ويقع غربي مدينة الرقة، ويحجز كمية من المياه تصل إلى 14 مليار متر مكعب، في بحيرة الأسد التي تبلغ مساحتها 630 كيلومتراً مربعاً، وطولها 80 كم بعرض 8 كيلومترات. يروي سد الفرات مساحة من الأراضي السورية تصل إلى 640 ألف هكتار ويولد طاقة كهربائية تراوح ما بين 800 و1100 ألف كيلوواط.
ومن السدود المهمة في سورية كذلك سدّ البعث، الذي يقع إلى الشرق من سدّ الفرات ومدينة الثورة التي قامت على ضفة بحيرته، ويحجز كمية من المياه تصل نحو 90 مليون متر مكعب، وهو سدّ تنظيمي، تولّد منه الطاقة الكهربائية.
أما سدّ تشرين، فهو أيضاً من السدود المهمة في سورية، إذ تصل مساحة بحيرته إلى 166 كيلومتراً مربعاً، ويصل مخزون مائه إلى 1.883 مليار متر مكعب، بالإضافة إلى سدّي "الطبقة" و"المنصورة".
وأقام العراق أيضاً سبعة سدود على نهر الفرات، أهمها في "حديثة" ثاني أكبر سدود البلاد، ويحجز خلفه بحيرة القادسية، إلى جانب سدود "الرمادي" و"الفلوجة" و"البغدادي" و"الهندية" و"الكوفة" و"الشامية".
أزمة حقيقية لسورية والعراق
لا يمكن إنكار الآثار السلبية للسدود التركية على الأوضاع المائية في كلّ من سورية والعراق، ولا سيما بعد الأضرار الواسعة التي سببها الانحسار الأخير للمياه، إذ أعلنت الإدارة الذاتية السورية "اقتراب بحيرتي سدي الفرات وتشرين من المنسوب الميت الذي يعني إيقاف التشغيل للسدود بشكل تام للحفاظ على ما بقي من مياه للشرب أولاً وللري ثانياً، الأمر الذي سبّب توقف توليد الطاقة الكهربائية من السدود. بالإضافة إلى تسببه بخروج آلاف الهكتارات من المساحات الزراعية الخاصة بالمحاصيل الاستراتيجية، كالقمح والشعير والقطن والخضروات الصيفية ضمن مشاريع استصلاح الأراضي في محافظتي دير الزور والرقة.
وجاء افتتاح العمل بسد "إليسو" التركي على نهر دجلة ضربة كبرى للاقتصاد العراقي، حيث يستوعب في حالة امتلائه كلياً بالمياه ما يقرب من 20.93 مليار متر مكعب، وسيولد 1200 ميغاواط من الكهرباء، ليصبح رابع أكبر سد في تركيا.
بناء سد إليسو التركي أدى إلى انخفاض حصة العراق من مياه النهر بنسبة 50% إلى 10 مليارات متر مكعب فقط
وتؤكد التقارير أن بناء السد أدى إلى انخفاض حصة العراق من مياه النهر بنسبة 50% إلى 10 مليارات متر مكعب فقط بدلاً من 20 ملياراً قبل السد، وهو الأمر الذي يشكل تهديداً حقيقياً للأمن القومي العراقي. وعبّر عن ذلك المتحدث باسم وزارة الموارد المائية العراقية، عون ذياب، قائلاً إنّ بلاده تخشى على أمنها المائي من السدود التي تطورها تركيا من دون اتفاق، والتي ستجعل الكمية الباقية التي تصل إلى العراق محدودة، وبنوعية غير جيدة.
وحذر المتحدث من أنّه في حال عدم التوصل إلى اتفاق مع تركيا وسورية وإيران، بشأن قواعد ملء السدود، سيكون هناك نقص نحو 11 مليار متر مكعب في المياه الواردة إلى العراق بحلول 2035.
وبالإضافة إلى سد إليسو، تشيد تركيا حالياً سدّ "سليفان" الذي يقع شمال شرقي ديار بكر، والذي وصل فعلياً إلى مراحل متقدمة، ومن المتوقع الشروع في تعبئته العام المقبل، كذلك هناك سدّ آخر اسمه "الجزرة" تحت التشييد حالياً.
اختفاء دجلة والفرات بحلول 2040
نشر موقع "دويتشه فيله" الألماني دراسة شديدة الأهمية عن مستقبل الحالة المائية في منطقة الشرق الأوسط، وأشارت الدراسة بوضوح إلى توقع تراجع الطاقة الاستيعابية لدجلة من 49 مليار متر مكعب سنة 2009، إلى 9 مليارات فقط سنة 2025.
أما الطاقة الاستيعابية للفرات، فستتراجع من 19 مليار متر مكعب سنة 2009 إلى 8 مليارات فقط سنة 2025. وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فسيختفي دجلة والفرات كلياً عام 2040.
تبدو أضرار السدود التركية بارزة مرحلياً على دولتي المصب سورية والعراق
وفي مقابلة مع وكالة "الأناضول" قال ليفينت كورناز، الخبير في مركز تغير المناخ ودراسة السياسات بجامعة "البوسفور" إنّ الخطر الأكبر على تركيا من بين المخاطر المحتملة لتغير المناخ يتمثل بإمدادات المياه في البلاد، وبالتالي تهديد الأمن الغذائي، وأضاف، إنّ "الجفاف هو القضية الأكثر إلحاحاً التي نحتاج إلى التعامل معها، وأمننا الغذائي أهم مشكلة في سياق تغير المناخ".
من الواضح أنّ التغيرات المناخية واحترار الأرض سيلقيان بتبعات مائية ثقيلة على منطقة الشرق الأوسط ككلّ، ومن بينها نهرا دجلة والفرات والبلدان التي يمران بها، وهي الأمور التي توضح أن كثافة بناء السدود وحجز المياه حلول مؤقتة ومضرة بالدول الشقيقة، وأن الأمر يحتاج الى سياسات أعمق من ذلك بكثير.
فعلى سبيل المثال، على الدول الثلاث الشروع الفوري في تحديث أنظمة الريّ الزراعي وإنشاء نظام لا يهدر المياه ويسمح باستخدام ما تحتاجه النباتات من المياه فقط، وكذلك إعادة موضعة كميات المياه المتوافرة في كلّ منطقة كعنصر رئيس في بناء خطط التنمية الاقتصادية، بمعنى اختيار الأنشطة الزراعية والصناعية وأعداد السكان الملائمة لكميات المياه المتوافرة. كلّ ذلك، بالإضافة إلى ضرورة استمرار الجهود المبذولة لزيادة الوعي العام بشأن استخدام الموارد.
تبدو أضرار السدود التركية بارزة مرحلياً على دولتي المصب، سورية والعراق، لكن، في ظل أزمة تغيرات مناخية حادة، من الواجب تمكين الباحثين والخبراء من دراسة المواقف الحالية والمستقبلية بصورة أعمق، وبناء استراتيجيات مشتركة يستفيد منها الجميع، مع العمل الواجب لتقليل الأضرار على الجميع إلى أقل الحدود الممكنة في الفترتين الراهنة والمقبلة.