كان ديسمبر/ كانون الأول الماضي شهر الاحتفال في الاتحاد الأوروبي، حيث تفاخرت المفوضية الأوروبية بانخفاض أكثر من 20% من الطلب على الغاز في القارة خلال الفترة بين أغسطس/آب ونوفمبر/ تشرين الثاني، إذ تراجع الاستهلاك بسبب الطقس الدافئ بشكل غير عادي وكذلك اضطرار الكثير من القطاعات بما فيها الأسر إلى ترشيد الاستهلاك لخفض فواتيرها، ونتيجة لذلك، انخفضت الأسعار.
ويبدو أن أزمة الطاقة وغلاء الأسعار جرى تفاديها، لكن هذا قد يكون وقتياً، وفق محللين في قطاع الطاقة. وقد يستمر الشتاء معتدلاً، لكن هذا قد يعني على الأرجح صيفاً جافاً حاراً أيضاً، وهذا من شأنه زيادة الطلب على الطاقة لأغراض التبريد، وفق نشرة "أويل برايس" الأميركية المتخصصة في الطاقة.
تكاليف الغاز المسال
والطلب الصيفي الجديد المحتمل على الطاقة قد يدفع الدول الأوروبية للإسراع في مهمة إعادة تعبئة مخزون الغاز لديها، ليس فقط لتلبية احتياجات أشهر الجفاف التي قد يجري تدبيرها من مخزون موسم التدفئة السابق، وإنما سيكون الهدف هو موسم التدفئة التالي، الذي يتطلب ملء 90% من المخزونات مرة أخرى، وفي هذه الحالة ستحتاج أوروبا إلى استيراد المزيد من الغاز الطبيعي المسال لتأمين إمداداتها المقبلة، لتظل التكاليف عند مستويات مرتفعة، حيث انغمست البلاد بشكل كبير في الاعتماد على الغاز المسال الأعلى كلفة من غاز الأنابيب الذي كانت تضخه روسيا.
وحسب "أويل برايس" فإن "المشكلة التي لا يريد السياسيون الأوروبيون التحدث عنها هي أنه طالما أن الاتحاد الأوروبي يعتمد على الغاز الطبيعي المسال، فإن أسعار الطاقة لن تنخفض كثيراً لسبب بسيط للغاية وهو أن الغاز المسال لا يمكن أن يكون رخيصاً مثل غاز خطوط الأنابيب". إذ من المتوقع على نطاق واسع أن تكون تدفقات الغاز عبر خطوط الأنابيب الروسية إلى أوروبا متدنية مقارنة بمستويات 2022، وسيسعى الاتحاد الأوروبي لضمان مستويات تخزين كافية قبل شتاء 2023/2024.
كما أنه رغم انخفاض أسعار الغاز في الأسابيع الأخيرة عن ذروتها في الصيف الماضي، إلا أنها ليست قريبة مما كانت عليه في عام 2019، وفق تقرير لصحيفة "بوليتيكو" الأميركية، حيث قفزت الأسعار خلال الصيف إلى خمسة أضعاف مستويات ذلك العام.
وقد يؤدي تفعيل آلية وضع سقف لأسعار الغاز عند 180 يورو (191 دولاراً) لكل ميغاواط/ ساعة، في 15 فبراير/ شباط المقبل، التي وافق عليها الاتحاد الأوروبي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلى تعقيد سعي أوروبا للحصول على الإمدادات.
كانت أسعار الغاز في أوروبا قد وصلت إلى مستوى غير مسبوق، خلال أغسطس/ آب 2022، عند 340 يورو لكلّ ميغاواط/ ساعة (99 دولاراً لكلّ مليون وحدة حرارية بريطانية)، مع إغلاق أنبوب "نورد ستريم 1" الذي ينقل الغاز الروسي، وتوقف بعض محطات تصدير الغاز المسال في أميركا وأستراليا بسبب الطقس السيئ.
ونهاية الأسبوع الماضي، سجلت أسعار الغاز تراجعاً جديداً يضاف إلى الهبوط المستمر منذ ثلاثة أسابيع سابقة. إذ انخفضت العقود المستقبلية الهولندية، المرجعية الأقرب أجلاً، بنسبة 4%، واستقرت عند نحو 69.53 يورو لكل ميغاواط/ ساعة (21 دولارا لكل مليون وحدة حراية بريطانية)، مسجلة هبوطاً أسبوعياً بنحو 8.9%.
فجوة في العرض
لكن وكالة الطاقة الدولية حذرت في تقرير لها مؤخراً من أن الاتحاد الأوروبي يواجه فجوة في العرض تبلغ 30 مليار متر مكعب من الغاز، حتى مع سياسة خفض الطلب المتعمد. وقد يكون من الصعب سد هذه الفجوة مع عودة شهية الصين للغاز الطبيعي المسال أيضاً، مع إعادة فتح البلاد.
ويحذر محللون من أن الشتاء المقبل 2023/2024 قد يكون أسوأ بكثير بالنسبة لأوروبا إذا عاد الطلب الآسيوي بقوة، وخاصة الصيني، واشتدت المنافسة بين الأسواق الأوروبية والآسيوية لجذب المزيد من إمدادات الغاز المسال. ووفق "أويل برايس" فإنه من السابق لأوانه أن يحتفل الاتحاد الأوروبي بالشتاء الدافئ الحالي.
ومن المحتمل أن تشهد سوق الغاز تبايناً في اتجاهات الاستهلاك بين المناطق، إذ تقود آسيا والمحيط الهادئ إلى جانب الشرق الأوسط وأفريقيا نمو الطلب العالمي، في حين أن من المرجح تراجعه في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية وأوراسيا بسبب الركود الاقتصادي المتوقع والتأثر بتداعيات الحرب الروسية والعقوبات المفروضة على موسكو.
وتتوقع وكالة الطاقة الدولية ارتفاع استهلاك الغاز الطبيعي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ إلى 923 مليار متر مكعب خلال 2023، بعد تقديرات بنحو 895 مليار متر مكعب في 2022، بقيادة الصين، التي من المرجح أن تشهد زيادة 20 مليار متر مكعب في الطلب، ليسجل 390 مليار متر مكعب.
في الأثناء، من المتوقع أن يواصل مشترو الغاز المسال الأوروبيون في عام 2023 موجة نشاط العقود التي أُغلقت العام الماضي، مع تشغيل المزيد من محطات الاستيراد. واستحوذت القارة العجوز على ما يقرب من 70% من إجمالي صادرات الغاز المسال الأميركي خلال العام الماضي 2022.
وفي الوقت الذي توجد فيه إمدادات محدودة متبقية، قد تكون الولايات المتحدة الخيار الأفضل للمشترين الأوروبيين مستقبلاً أيضا، بحسب ما أوردته منصة "ناتشورال غاز إنتليجنس".
وتظهر بيانات تتبع صفقات الغاز المسال استمرار الدفقات مع بداية العام الجاري. وفي الأسبوع الماضي، كان حوالي 68% من شحنات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة متوجهة إلى أوروبا، و27% فقط ذهبت إلى آسيا، حسبما قالت لورا بيغ، كبيرة المحللين في شركة تحليل البيانات "كيبلر" في تصريحات لوكالة بلومبيرغ الأميركية.
ومنذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقع المشترون الأوروبيون، بما في ذلك "إنجي" الفرنسية و"غالب إنرجيا" البرتغالية و"إينيوس" البريطانية و"آر دبليو إي" الألمانية، صفقات لشراء الغاز المسال الأميركي لمدة 15 عاماً أو أكثر. وفي الوقت نفسه، حصلت شركة "ترافيغورا غروب" على قرض بقيمة 3 مليارات دولار بدعم من الحكومة الألمانية لشراء المزيد من الغاز للبلاد.
أول محطة لاستيراد الغاز المسال
وتشير التقديرات إلى أن أوروبا تحتاج من 50 مليونا إلى 75 مليون طن من إمدادات الغاز المسال طويلة الأجل من الولايات المتحدة وحدها، للمساعدة بتعويض الانخفاض في الواردات الروسية. ولذلك، تعمل العديد من الدول في جميع أنحاء أوروبا لبناء المزيد من القدرة على استيراد الغاز المسال.
ويتوقع محللون أن ترتفع قدرة استيراد الغاز الطبيعي المسال الإجمالية في أوروبا بنسبة 20% بنهاية العام الجاري. ويتركز الازدياد في قدرة استيراد الغاز الطبيعي المسال في أوروبا بصفة أساسية في النصف الأول من العام الجاري، إذ قادت محطات الاستيراد الألمانية الجديدة معظم الزيادة، حسب تقرير حديث لوكالة "أرغوس ميديا" المعنية بالطاقة. وافتتحت ألمانيا مؤخراً أول محطة لاستيراد الغاز المسال من أصل 3 محطات استيراد مخطط لها، ومن المقرر أن تبدأ هذا الشتاء.
وفي وقت سابق من يناير/كانون الثاني الجاري، وصلت أول شحنة منتظمة من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة إلى ألمانيا، في إطار الجهود واسعة النطاق لمساعدة البلاد على استبدال إمدادات الطاقة التي كانت تتلقاها في السابق من روسيا.
ووصلت الناقلة "ماريا إنرجي" إلى ميناء فيلهلمسهافن على بحر الشمال، الثلاثاء الماضي، حيث سيجري تحويل شحنتها من الغاز الطبيعي المسال مرة أخرى إلى غاز في محطة عائمة خاصة، قام المستشار الألماني أولاف شولتس بافتتاحها الشهر الماضي.
وارتفعت الاحتياطيات في مرافق تخزين الغاز في ألمانيا إلى أكثر من 90% مستهل العام الجاري، حيث أدت درجات الحرارة الدافئة غير المعتادة في معظم أنحاء أوروبا الوسطى إلى تراجع الطلب على الغاز.
ووفقاً لأرقام صادرة عن مكتب الإحصاء الأوروبي "يوروستات" فإن ألمانيا استهلكت في السنوات الأخيرة ما بين 80 و90 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً، نصفها وصل من روسيا قبل بدء الحرب الروسية على أوكرانيا نهاية فبراير/ شباط 2022، لكن اعتباراً من مايو/ أيار الماضي تراجعت حصة الواردات الروسية إلى أقل من 9%.