حتى وقت قريب وفي العرف العام كان الرجل إذا اقترض مالاً يعتبره هذا الأمر سرا حربيا ويخفي الأمر على كل من حوله، بل وربما على أسرته وأقرب الأقربين.
وأحيانا ما كان ينكر حصوله على قرض سواء من شخص يعرفه أو من بنك ومؤسسة إقراض، وإذا سأله أحد عن حقيقه اقتراضه كان يسارع بالنفي القاطع، وقبلها يبدي غضبه الشديد من ترديد تلك الشائعات، ومعها يشعرك بالتوتر والقلق الشديدين حتى ينفي عن نفسه تلك التهمة الشنيعة ووصمة العار.
ذلك لأن أحدا عرف أنه في ضائقة مالية، وأن الحصول على قروض هو نوع من العيب، لأن هذا الأمر يسيء لسمعته ووضعه الاجتماعي، بل ويسيء لأسرته وعائلته، وأن الناس قد لا يتعاملون باحترام سواء معه أو مع أسرته، بل ويرفضون تزويج أولادهم من أحدى بناته.
وكان هؤلاء يرددون مقولة: "الدين ذل بالليل ومهانة بالنهار" ويستعيذون بالله من غلبة الدين وقهر الرجال شأن الاستعاذة من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل.
حتى لو لجأ هذا الشخص مضطرا لعمل "جمعية" لمواجهة أزمته المالية وحل نقص السيولة لديه، كان يحرص على أن يظل الأمر طيً الكتمان أو ضمن دائرة ضيقة سواء في المحيط الأسري أو الوظيفي أو الاجتماعي، حيث يتم انتقاء الأعضاء المشاركين في الجمعية بعناية وبناء على معايير صارمة منها الأمانة وحسن السمعة والحرص على أداء حقوق الغير وسداد الدين وعدم تأخيره.
حاليا انقلب الأمر، لكن ليس لدى الأفراد، بل لدى الحكومات المتعاقبة التي توسعت في الاقتراض الخارجي خلال السنوات الأخيرة لتغطية أزمات مالية واقتصادية ونقدية هي من صنعتها أو سببت سياستها في تفاقمها، أو سد فجوات تمويلية لعبت الدور الأكبر في تعميقها بسبب إهدار المال العام وإساءة استخدامه، وتوجيه قروض دولارية لتمويل مشروعات محلية لا تدر عائدا بالنقد الأجنبي ولا تحتاج سيولة دولارية من الأصل مثل مشروعات البنية التحتية والطرق والكباري والصرف الصحي واستصلاح الأراضي وغيرها، فكل ما تحتاجه تلك المشروعات وغيرها هي مواد خام يتم الحصول عليها بالعملة المحلية ولا تتطلب تمويلا بالنقد الأجنبي أو استيراد مواد خام ومدخلات إنتاج.
وبدلا من أن تخرج علينا تلك الحكومة وتوضح للرأي العام الأسباب الملحة التي دعتها للحصول المتواصل على قروض ضخمة من كل حدب وصوب، وسر انتهاج سياسة سفه الاقتراض، ولماذا الإصرار على عودة الأموال الساخنة، وإصدار سندات دولية في الأسواق الخارجية بسعر فائدة عال مرهق للموازنة العامة، راحت تتفاخر بتلك القروض وتعتبرها شهادة من المؤسسات المقرضة بقوة الاقتصاد المحلي ونموه المتسارع وقوة قطاعه المالي والمصرفي وجاذبية الدولة للاستثمار.
أحدث مثال على ذلك ما حدث في مصر خلال الأيام الأخيرة، حيث دخل كبار المسؤولين في منافسة مع وسائل الإعلام المختلفة في الترويج للقروض الخارجية الضخمة الأخيرة ومنها 9.2 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، وقروض خليجية وعربية ودولية أخرى في الطريق، ووصفها بأنها فاتحة خير على المواطن والاقتصاد لأنها.
ما هي الكلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل تلك التلال من القروض؟ ما مخاطر كل تلك القروض على الأمن القومي المصري والارتهان للدائنين الدوليين؟
وحسب هؤلاء، فإن القروض الجديدة ستدعم برنامج الإصلاح الاقتصادي، وتساهم في خفض أسعار السلع الرئيسية ومنها الغذائية، ووقف موجة الغلاء وإعادة الاستقرار لسوق الصرف والقضاء على السوق السوداء، وتوفير قروض ميسرة للدولة المصرية، وتوفير سيولة نقدية تساعد الحكومة في استكمال مشروعاتها التي لا علاقة لمعظمها بالمواطن واحتياجاته والاقتصاد وأنشطته.
وفي ظل الزفة الإعلامية التي تتكرر مع كل قرار تعويم للجنيه والحصول على قروض جديدة من صندوق النقد، وعمليات الاقتراض الكثيف، لم تقل لنا الحكومة: كيف ستسدد تلك التلال من القروض الخارجية، ما هي الأنشطة الاقتصادية المولدة لإيرادات دولارية تكفي السداد وتغطية احتياجات الاقتصاد من تمويل فاتورة الواردات وغيرها، ما هي الالتزامات التي تعهدت الحكومة بها لصندوق النقد مقابل منحها قرضا سخيا بقيمة 9.2 مليارات دولار؟
هل من بين تلك التعهدات إلغاء الدعم عن رغيف الخبز مثلا، والبدء في بيع حصص في البنوك الحكومية ورهن الأصول الاستراتيجية، ما هي خطة الحكومة لاستثمار القروض الجديدة بحيث تضمن توليد إيرادات دولارية يتم عبرها سداد التزامات القروض من فوائد وأصل الدين؟
ما هي خطة الحكومة لترشيد الإنفاق العام خاصة الدولاري، أم أن مليارات القروض سيتم "رميها" في كباري وطرق يتم تدشينها في الصحراء وأبراج سكنية بعيدا عن العمران، في حين يتم رمي جزء آخر في مشروعات تستفيد منها الطبقة الثرية سواء القاطنة في الساحل الشمالي حيث العلمين ومارينا وأخواتها ورأس الحكمة الجديدة، أم على سواحل البحر الأحمر الفارهة حيث العين السخنة والغردقة وشرم الشيح، ومستقبلا سكان العاصمة الإدارية الجديدة؟
لماذا تحولت مصر ذات الموارد الدولارية الضخمة التي تتجاوز 100 مليار دولار سنويا إلى ثاني أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين، ولماذا اقترضت نحو 30 مليار دولار من الصندوق في غضون سنوات قليلة، أين ذهبت كل تلك القروض التي تجاوزت 200 مليار دولار في السنوات العشر الأخيرة؟
ما هي الكلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل تلك التلال من القروض؟ ما مخاطر كل تلك القروض على الأمن القومي المصري والارتهان للدائنين الدوليين؟