ظنّ النظام الإيراني أنّه سيتنفَّس الصعداء بعد مرور 40 يوماً على وفاة مهسا أميني (22 عاماً)، بعد اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق بتهمة عدم التزامها بقواعد اللباس الصارمة المفروضة على النساء في إيران، لكن اتَّضح أنّه كان على خطأ، حيث تستمرّ الاحتجاجات وتتَّسع رقعتها ومن غير المستبعد أن تتحوَّل لاحقاً إلى ثورة شعبية مشابهة لثورات الربيع العربي التي غيَّرت معالم المنطقة العربية، وخلَّفت خسائر بمليارات الدولارات، وتسبَّبت بموجات كبيرة من اللاجئين.
إذا كان من الصعب تحديد عمق وقوّة هذه الاحتجاجات، فمما لا شكّ فيه أنّ الصحوة في جميع أنحاء البلاد استقطبت أغلب طاقات الاحتجاج الداخلي الذي لا يمكن إنهاؤه ولا احتواؤه في ظروف الدولة ومؤسساتها، والمشكلة الخطيرة التي قد تزيد الأمور سوءاً هي الضغوطات الاقتصادية الكبيرة التي قد يتعرَّض لها النظام من قبل التجار وكبار رجال الأعمال والعاملين في قطاع الطاقة.
لقد اختلفت الأمور عما كانت عليه في السابق، فلم يعد بمقدور إيران حشد مجموعات الضغط في الغرب لتغذية الإعلام الدولي بمقالات عن تمكين المعتدلين والتوصُّل إلى اتِّفاق بشأن برنامج إيران النووي نظراً لانضمام العديد من الأصوات التي كانت تستخدم في الماضي للدعوة إلى نوع من التفاهم مع النظام إلى صفوف المؤيِّدين للاحتجاجات، وهنا يحضر بقوّة المثل الشعبي القائل "إذا وقعت البقرة كثرت سكاكينها"، حيث تنتظر القوى الغربية ومعظم الدول الخليجية وإسرائيل وحتى أذربيجان بفارغ الصبر لحظة انهيار إيران وسقوط نظامها.
ففي 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أعلن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية عن فرض عقوبات على الشركات المشاركة في إنتاج أو نقل الطائرات المسيّرة الإيرانية إلى روسيا التي استخدمتها في شنّ هجمات مدمِّرة ضدّ المدنيين والبنية التحتية في أوكرانيا.
تواجه إيران سلسلة غير مسبوقة من التحدِّيات على كل الأصعدة، كما أنّها تقف الآن أمام مفترق طرق صعب، فلا النظام الإيراني قادر على السيطرة على الاحتجاجات التي تنتشر كالنار في الهشيم، ولا الأصوات الصاخبة المحتجّة التي أثبتت قدرتها على الاستمرار في زعزعة الشوارع قادرة على هزيمة النظام الذي أثبت لحدّ الآن أنّه غلّ لا يخلع.
في خضمّ المعادلة المعقَّدة ذات المتغيِّرات التالية: التوتُّرات في إيران، التعطُّش للطاقة في أوروبا، استخدام روسيا للمسيّرات الإيرانية، قرار "أوبك+" بخفض إنتاج النفط، الصعوبات التي تواجه مفاوضات بنيامين نتنياهو مع شركائه لتشكيل الحكومة، وكأس العالم في قطر، تعرَّضت ناقلة النفط "باسيفيك زيركون" التابعة لشركة بحرية يملكها الملياردير الإسرائيلي عيدان عوفر لهجوم بطائرة مسيّرة مفخَّخة قبالة سواحل عمان في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وبلغ تراشق التهم مداه بين إيران وإسرائيل.
الضرر الاقتصادي الأكبر الناجم عن حجب الإنترنت يقع على وجه الخصوص على النساء العاطلات عن العمل، اللواتي يكافحن من أجل البقاء على قيد الحياة
تنمّ تلك المعادلة المعقَّدة أيضاً عن الاحتمالات الكبيرة لضلوع قوى خارجية في الانتفاضة الإيرانية الحالية، فقد أفادت وزارة الداخلية الإيرانية بأنّها ألقت القبض على ضباط مخابرات فرنسيين في احتجاجات في البلاد، حيث تتَّهم الحكومة الإيرانية خصومها الغربيين بتأجيج الاحتجاجات في جميع أنحاء إيران، لا سيَّما بارتفاع صوت الانتفاضة ضدّ تشدُّد النظام في فرض الشريعة بالقوّة وهي القشّة التي قصمت ظهر البعير، فقد ضاق الإيرانيون بحياتهم وبالنظام الذي يحكمهم، وآن لهم أن يعبِّروا عن ضيقهم.
تمضي القوى الغربية قدماً في تبنّي سياسة الضغط الأقصى وترغب في انتهاز هذه الفرصة السانحة لتمرير مطالبها العالقة، فقد قدَّمت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا مشروع قرار إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتَّحدة لمطالبة إيران بالتعاون الكامل مع الوكالة، وذلك بعد إصدار هذه الأخيرة تقريراً يفيد بعدم تحقيق إيران مزيداً من التقدُّم بشأن مواد نووية غير معلنة، غير أنّ إيران أعلنت في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 رفضها لهذا المشروع الذي تمَّ تفصيله وفقاً للمصالح الغربية والإسرائيلية.
تتزامن حملة الضغط الأقصى لإجبار إيران على تغيير سياسات التخصيب وتعديل سياستها الخارجية في المنطقة بما يرضي إسرائيل مع تفاقم الاحتجاجات والمظاهرات، ليقف الاقتصاد الإيراني جرّاء ذلك تحت وقع الضربات والصدامات المتتالية، فقد أدَّت حملة الحكومة الإيرانية القمعية ضدّ حركات الاحتجاج إلى إلحاق خسائر متزايدة باقتصاد البلاد المُدمَّر أصلاً بسبب العقوبات، حيث أدَّى حجب الإنترنت في مناطق معينة وإبطاء سرعتها في مناطق أخرى إلى اختناق قنوات الدفع الحيوية للشركات، فعلى سبيل المثال تكبَّدت صناعة تكنولوجيا المعلومات والشركات في إيران نتيجة لذلك خسائر تفوق 24 مليار دولار، وفقاً لنائب رئيس اللجنة الاقتصادية في غرفة طهران للتجارة فرزين فرديس، كما تمَّ إغلاق ما يصل إلى 700 ألف متجر لبيع البضائع عبر تطبيق التواصل الاجتماعي "إنستغرام".
تقدِّم هذه الاحتجاجات مثالاً يثبت كيف نكث الرئيس إبراهيم رئيسي بوعده المتمثِّل في وضع حدٍّ لمعاناة المواطنين من مشاكل الإنترنت، وجدير بالذكر أنّ هذه المشاكل قد دفعت العديد من الإيرانيين إلى مغادرة البلاد وقلَّلت الاستثمارات؛ ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، نتجت عن قطع الإنترنت لمدّة أسبوع وإجبار الإيرانيين على استخدام المواقع الإلكترونية الوطنية فقط خسائر كبيرة بنحو 37 مليون دولار يومياً، وفقاً لشبكة "NetBlocks" لمراقبة أنشطة الإنترنت في العالم.
الخطير في الأمر، أنّ الضرر الاقتصادي الأكبر الناجم عن حجب الإنترنت يقع على وجه الخصوص على النساء العاطلات عن العمل، اللواتي يكافحن من أجل البقاء على قيد الحياة في مجتمعات تعيش الفقر ووجدن مصدر رزقهن في الوظائف غير الرسمية في الأعمال التجارية عبر الإنترنت، مثل التجارة وتعليم اللغات عبر الإنترنت، فبحسب بيانات منظمة العمل الدولية "ILO"، وصلت نسبة الإناث العاطلات عن العمل في إيران إلى 40.3% في الفئة العمرية (24-15 سنة) و15.8% في الفئة العمرية (25 سنة فما فوق) في 2022، حيث تعاني هذه الفئة المستضعفة أكثر من غيرها من السياسات القمعية وتخضع لتمييز طاغٍ في القانون والواقع ويبقى مصدر رزقها الوحيد مُعلَّقاً بأهواء النظام الإيراني المتشدِّد.
خلاصة القول، تحمَّل الإيرانيون العديد من المشقّات الاقتصادية، لكنّهم لن يتحمَّلوا المزيد من الانتهاكات وقمع الحريات، وعاجلاً أم آجلاً سيتعيَّن على النظام الإيراني إجراء تغييرات جذرية.