يتطلع المواطن الليبي إلى تحسن القوة الشرائية للدينار مع ارتفاع أسعار النفط عالمياً، في بلاد تعتمد على العائدات البترولية لتحريك عجلة الاقتصاد، إلا أن وجود صراع بين الحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا، وحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة الذي يرفض تسليم السلطة، امتد إلى حجز الإيرادات النفطية، ومن ثم تحريرها جزئياً، وسط أزمة اقتصادية ومعيشية قاسية تضغط على المواطنين.
وفي نهاية الأسبوع الماضي، أعلنت حكومة الدبيبة أن المؤسسة الوطنية للنفط قامت بتحويل جزء من الإيرادات النفطية المحتجزة إلى حساب مصرف ليبيا المركزي لتغطية الإنفاق العام، من رواتب ودعم محروقات وصرف منح الأبناء، بدفعة أولى بقيمة أربعة مليارات دولار. وأكدت حكومة الوحدة الوطنية، كذلك، بدء ترتيبات مالية طارئة للمؤسسة الوطنية للنفط بقيمة 37.6 مليار دينار، ما يعادل 8.39 مليارات دولار، وفق خطة تنموية لمدة ثلاث سنوات.
وكان ديوان المحاسبة وصف خطوة حجز الإيرادات بأنها غير قانونية، بعدما طلب رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح من رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله احتجاز إيرادات النفط في حساب مصرف ليبيا الخارجي، وعدم تحويلها إلى حسابات الإيرادات العامة بالمصرف المركزي، لقطع التمويل عن حكومة الوحدة الوطنية، وتسهيل تسلم باشاغا السلطة.
وتباينت ردود الأفعال على إجراء حجز الأموال، خاصة أن النفط يشكل أكثر من 90 في المائة تقريباً من حجم الموازنة العامة، والإيرادات النفطية تأثرت بالصعود العالمي لترتفع خلال الربع الأول من 2022 إلى مستوى لم تصل إليه منذ عام 2013 مسجلة 9.7 مليارات دولار، وفق تصريح مصدر مسؤول في المصرف الليبي الخارجي لـ"العربي الجديد".
وقال أستاذ الاقتصاد عصام التائب، لـ"العربي الجديد"، إن فك الحجز جزئياً عن الإيرادات النفطية يخفف الأعباء المعيشية عن المواطنين، خاصة في ما يتعلق بصرف الرواتب في موعدها، فضلاً عن معالجة أزمة المحروقات في السوق المحلي.
واعتبر أنه مع الغلاء الموجود والانسداد السياسي في البلاد، فإن أي حكومة بحاجة للأموال لتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة للمواطنين، لا سيما أن هناك نقصاً في أدوية الأمراض المستعصية في المستشفيات الحكومية، وسط عدم قدرة الدولة على السيطرة على الضغوط التضخمية أو توفير مخزون استراتيجي لطحين المخابز.
وقال الدبيبة إن المستهدف مع نهاية العام إنتاج 1.45 مليون برميل من النفط يوميا، وأكد خلال مراسم إطلاق "الخطة التنموية 2023 – 2025" اعتماد توصيات اللجنة الحكومية التي شكلها لدراسة آليات تطوير القطاع.
واعتبر المحلل الاقتصادي أحمد المبروك، في حديث مع "العربي الجديد"، أن حكومة الدبيبة تحاول عبر هذه الخطة استمالة مؤسسة النفط بعد احتجاز الإيرادات، لكنها لا تمتلك صلاحية صرف الأموال إلا بتشريع قانوني، فيما مجلس النواب يدعم حكومة باشاغا، وبالتالي هناك معضلة قانونية في آلية الإنفاق.
وأيد المبروك خطوة تجميد الإيرادات النفطية مع تقاعس الجهات الرقابية عن ضبط المخالفات المالية لحكومة الدبيبة. وقال إن الحكومة توسعت في الإنفاق العام وفتحت الباب على مصراعيه وجله إنفاق استهلاكي، من دون تحقيق أي تنمية حقيقة. ولفت إلى أن حكومة الوحدة فشلت في إدارة ملف كورونا وكذلك في توفير مخزون استراتيجي للحبوب وضمان الأمن الغذائي والصحي.
وأكد أن على الحكومة الجديدة أن تستلم السلطة وتدير شؤون البلاد مع تعافي النفط إنتاجاً وأسعاراً. إلا أن المحلل المالي عبد الناصر الكميشي أثنى على الخطوة التي اتخذتها حكومة الوحدة الوطنية لدعم قطاع النفط مع ارتفاع الأسعار عالمياً. وقال لـ"العربي الجديد" إن هذا الإجراء تأخر كثيرا، ولكنه سوف يسهم في رفع معدلات إنتاج ليبيا من النفط وزيادة الإيرادات التي تعتبر المصدر الرئيسي للعملة الصعبة في البلاد.
وكان وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء في حكومة الوحدة الوطنية، عادل جمعة، أعلن أن نتائج أعمال اللجنة الحكومية أوصت بإجراءات لتطوير قطاع النفط والغاز، وإنهاء حالة التعثر التي تواجه المؤسسة الوطنية للنفط مع تعين حكومة الوحدة مكتباً استشارياً دولياً للإشراف على خطة المؤسسة لعام 2022.
من جهته، حذر المحلل الاقتصادي وئام المصراتي من تداعيات استمرار حجب الإيرادات النفطية فيما البلاد تعاني من نقص الغذاء، معتبراً أن هذا البند الأخير يندرج ضمن الأمن القومي. وقال إن معارك كسر العظم بين حكومتي الدبيبة وباشاغا يدفع ثمنها المواطن وحده.
وشرح: "لدينا حكومتين كل منها تريد الأموال، فيما مدخرات المواطنين تآكلت بسبب الغلاء المتزايد والناس تعجز عن توفير قوت يومها".
بدوره، قال أستاذ الاقتصاد في جامعة الجبل الغربي عبد الحكيم عامر غيث، لـ"العربي الجديد"، إن حجز الإيرادات يعني تعطل الوعود الحكومية حول منحة الغلاء والدعم الجزئي للسلع الأساسية، أو تفعيل صندوق موازنة الأسعار وكذلك توفير مخزون استراتيجي للحبوب.
واعتبر أن هذا التعطيل ينعكس ارتفاعاً في الأسعار وضعف قدرة المستهلك على شراء السلع الأساسية.
وأكد المواطن عبد الله شلابي أن المشكلات المعيشة تقسو على الليبيين "لا يوجد ضوء في نهاية النفق. الأسعار ارتفعت وأصبح المواطن يشتري عبوة زيت الطعام بـ12 ديناراً بعدما كان سعرها لا يتعدى 7.5 دنانير، لا بل يشترط التاجر عليه شراء عبوة واحدة فقط".
وشرح الباحث الاقتصادي محمد عبيد أن الوضع الاقتصادي لا يتحمل المزيد من التضخم، ومع ارتفاع الإيرادات النفطية خلال الربع الأول من العام، كان لزاماً على المصرف المركزي رفع قيمة الدينار، ما يسهم في تخفيف الأعباء المعيشية على المواطنين.
وفي عام 2021، حدد مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي سعر صرف موحد جديد في أنحاء البلاد عند 4.48 دنانير للدولار الأميركي الواحد بدلا من السعر القديم 1.4 دينار، بتخفيض قيمة العملة بنسبة 70 في المائة.
وذكرت "مجموعة الأزمات الدولية" عدة عوامل قد تجعل رئيسي الحكومتين المتنافستين عبد الحميد الدبية وفتحي باشاغا يقبلان بالوساطة الخارجية، رغم اعتقادها أن التوافق بين الطرفين صعب، داعية القوى الخارجية إلى التوحد للمساعدة في منعهما من الصدام مرة أخرى.
وكان محافظ البنك المركزي الصديق الكبير قال، في تصريحات مطلع العام لوكالة بلومبيرغ الأميركية، إن ليبيا بحاجة إلى زيادة إنتاج النفط بنحو 40 في المائة لتغطية احتياجات الإنفاق والبدء في تجديد اقتصاد عانى من حرب طويلة. وسبق أن شهد الصراع على موارد النفط في ليبيا جولات عدة بين الأطراف المتناحرة خلال السنوات العشر الماضية.
وتعرضت الإيرادات النفطية للاحتجاز من جانب مؤسسة النفط نهاية 2020 في حساباتها لدى المصرف الليبي الخارجي "بشكل مؤقت"، مبررة ذلك حينها بانتظار الوصول إلى تسوية سياسية شاملة بين حكومة الوفاق الوطني في طرابلس حينها والكيانات الموازية شرقي البلاد.
وفي عام 2021، أنهت المؤسسة الوطنية للنفط الحجز على الإيرادات وأفرجت عن 7.76 مليارات دولار كانت مجمدة لأربعة أشهر و14 يومًا.
ويشكل قطاع الهيدروكربونات العمود الفقري للاقتصاد، إذ تمثل صادرات النفط غالبية الإيرادات الحكومية وأكثر من 95 في المائة من عائدات التصدير. وفقد احتياطي ليبيا أكثر من 54 في المائة من قيمته خلال عشر سنوات، حيث تراجع إلى 75 مليار دولار مع نهاية العام الماضي 2021، بينما كان عام 2012 حوالي 138 مليار دولار، حسب إحصاءات المصرف المركزي.
وفي الوقت الحالي، تنتج ليبيا نحو 1.260 مليون برميل يوميًا من النفط الخام. وتأمل في زيادة هذا الإنتاج إلى 1.45 مليون برميل يوميا بنهاية 2022، و1.6 مليون برميل يوميا بحلول 2023، وصولاً إلى 2.1 مليون برميل يوميا في السنوات المقبلة.
ولم تتمكن ليبيا، في السنوات الأخيرة، من تسريع تطوير صناعتها النفطية بسبب عدم الاستقرار السياسي، ما عرقل مشاريع البنية التحتية التي من المفترض أن تعزز موقع البلاد الاستراتيجي.