ربما يكون اهتمام الدول الغربية بالحرب الروسية الدائرة في أوكرانيا انصبّ على أزمة الطاقة أكثر من الأزمات الأخرى التي تؤرق شعوب العالم، باعتبار أنّها دول صناعية وتقع في مناطق باردة وتعتمد على روسيا في تلبية جزء كبير من احتياجاتها للتدفئة وإدارة ماكينات الصناعة على استيراد النفط والغاز الطبيعي من روسيا، خصوصاً في أوروبا.لكنّ العديد من دول العالم تواجه أزمة أكبر من تداعيات الحرب الروسية على ارتفاع أسعار النفط والغاز، وهي أزمة النقص المريع الذي ستحدثه في القمح والشعير والذرة ومنتجات الحبوب الأخرى التي تعتمد في استيرادها على روسيا وأوكرانيا.
ولا يستبعد محللون حدوث مجاعات حول العالم، في حال طول أمد الحرب وتطورها إلى أبعد من نهاية إبريل/نيسان المقبل، حين يبدأ موسم الزراعة، وأن تؤدي الحرب إلى اضطرابات سياسية خطرة تهدد النظم القائمة في الدول الفقيرة وبعض الدول النامية في منطقة الشرق الأوسط وآسيا.
وكانت كلّ من منظمة الأغذية والزراعة العالمية "فاو" وبرنامج الغذاء العالمي، قد حذّرا من احتمال أن تقود الحرب الروسية في أوكرانيا إلى مجاعة في أكثر من 20 دولة من دول العالم، بسبب النقص المتوقع في إنتاج المحاصيل الغذائية، وعلى رأسها القمح.
وحتى الآن، رفعت الحرب مؤشر أسعار السلع الغذائية بنسبة 40% في صفقات العقود المستقبلية ببورصة شيكاغو الأميركية، في بداية الشهر الجاري، وقاد القمح هذه الارتفاعات الجنونية.
وجاء الارتفاع بسبب أهمية كلّ من روسيا وأوكرانيا في تلبية احتياجات العالم بالحبوب، إذ تمد الدولتان العالم بنحو 41% من إجمالي صادرات القمح، حسب بيانات نشرة "إمباكتر" البريطانية المتخصصة في القضايا الرئيسية التي تهم العالم.
وحسب النشرة، تصدّر روسيا نحو 29% من إجمالي صادرات القمح في العالم، بينما تبلغ حصة أوكرانيا نحو 12% من إجمالي الصادرات العالمية من القمح.
وحتى اللحظة، من غير المعروف حجم الدمار الذي أحدثته الحرب في أوكرانيا لمزارع القمح، لكنّ المؤكد أنّ العديد من المزارعين هجروا مزارعهم بسبب الحرب الدائرة في البلاد وتحولوا إلى لاجئين. أما روسيا، فتواجه الحظر الاقتصادي والمالي الغربي الصارم عليها وعدم قدرتها على النفاذ إلى الأسواق العالمية، وبالتالي ظلت السلع الغذائية حبيسة المخازن وربما تظل كذلك لفترة من الزمن.
وسط مخاوف التجار والمضاربين على السلع الزراعية، ارتفعت أسعار القمح إلى أعلى مستوى لها منذ مارس/آذار في عام 2008 في بداية الشهر الجاري، إذ بلغ سعر الجوال 12 دولاراً في بورصة شيكاغو للسلع.
وتشير بيانات البورصة الأميركية المتخصصة في السلع إلى أن سعر جوال القمح انخفض عن مستوياته في الأسبوع الماضي، لكنّه ما زال مرتفعاً بنسبة 72% عن مستويات الأسعار في نفس الفترة من العام الماضي، حين بلغ 11.07 دولاراً.
وفي ذات الصدد، رفع مصرف "كوميرتس بنك" الألماني يوم الجمعة توقعاته لأسعار القمح في الربيع المقبل بنسبة 19% في بورصة شيكاغو وبنسبة 14% في بورصة باريس.
وتعاني إمدادات القمح العالمية من ثلاث عقبات رئيسية، وهي تراجع مخزونات القمح العالمية وارتفاع الأسعار ومشكلة عبور الشحنات الموجودة في المخازن من القمح الأوكراني عبر البحر الأسود. وبات البحر الأسود الذي يعد المنفذ المائي الوحيد لأوكرانيا والرئيسي لروسيا مسرحاً للحرب. وبالتالي، تعطلت صادرات الدولتين إلى الأسواق الدولية.
وعلى الرغم من أنّ الموانئ الروسية على البحر الأسود تعمل بشكل طبيعي، فإنّ تجار السلع وأصحاب السفن يتفادون هذه الموانئ بسبب مخاطر الحرب.
في هذا الصدد، يقول محلل السلع في مؤسسة "أغرو إنتيليجنس" الأميركية للأبحاث المتخصصة في السلع الغذائية، ويل أوسانتو "لا أحد من التجار يرغب في دفع كلف التأمين الخيالية التي تطالب بها شركات التأمين على الشحنات والسفن العابرة للبحر الأسود ". ومع بقاء 6 أسابيع على بداية موسم زراعة القمح في كلّ من أوكرانيا وروسيا، أي في نهاية إبريل المقبل، يرى محللون أنّ العالم سيواجه مخاطر حقيقية في إمدادات القمح إن لم تتوقف الحرب.
في هذا الشأن، قال المدير التنفيذي لشركة "إم إتش بي" المتخصصة في توريد المواد الغذائية في أوكرانيا، جون ريتش، إنّه متخوف من موسم الزراعة في الربيع، والذي يعد حيوياً، ليس فقط بالنسبة للإمدادات المحلية في أوكرانيا، لكن أيضاً للكميات الضخمة من الحبوب والزيوت النباتية التي تصدرها الدولة. وأضاف في تصريحات نقلتها صحيفة "فاينانشال تايمز": "يتسبب هذا الصراع في تأثير ضخم على قدرة أوكرانيا وروسيا لإمداد العالم بالمواد الغذائية".
ومع تزايد المخاوف من انقطاع الإمدادات الغذائية من الأسواق الروسية، قال محللون، أمس الاثنين، إنّ روسيا بدأت تستأنف تدريجيا تصدير القمح من موانئها على البحر الأسود، على الرغم من أنّ حركة الملاحة في بحر آزوف ما زالت خاضعة لقيود.
وقالت شركة "إيكار" للاستشارات الزراعية في مذكرة: "الصادرات مستمرة من جميع موانئ تصدير الحبوب الخمسة على البحر الأسود".
وأضافت أنّ أسعار القمح الروسي لا تزال متقلبة جدا، مشيرة إلى أن سعر القمح، الذي يبلغ محتوى البروتين فيه 12.5 بالمائة، للتسليم على ظهر السفينة (فوب) بلغ 415 دولارا للطن من موانئ البحر الأسود في 11 مارس/آذار.
وذكرت "سوفكون"، وهي شركة استشارات أخرى، أن الموانئ الروسية على البحر الأسود حمّلت 400 ألف طن من القمح الأسبوع الماضي، وأنّ السفن كانت تدخل وتخرج من الموانئ هناك. وأضافت "الملاحة الكاملة في بحر آزوف لا تزال متوقفة، لكنّ بعض السفن بدأت عبور مضيق كيرتش إلى البحر الأسود". وقالت "سوفكون" إنّ المزارعين في السوق المحلية بدأوا في رفض التوقيع المسبق على العقود، وسط طلب قوي من المصدرين والمشترين المحليين.
ولم يتم حتى الآن الموافقة على القرار الذي اتخذته روسيا في الآونة الأخيرة بتعليق صادرات الحبوب إلى بعض دول الاتحاد السوفييتي السابق، لكن سوفكون قالت إن متعاملين في السوق أبلغوا بالفعل عن قيود غير رسمية على إمدادات الحبوب عبر خطوط السكك الحديدية من سيبيريا إلى كازخستان.
وتراجعت صادرات القمح الروسي 45.4 بالمائة منذ بداية موسم التسويق 2021-2022 في الأول من يوليو/تموز، بسبب قلة المحصول وضريبة صادرات جرى تحديدها عند 86.3 دولاراً للطن في الفترة من 16 إلى 22 مارس/آذار.
وقالت "سوفكون" إنّ من المتوقع حدوث موجة صقيع في عدد من مناطق إنتاج القمح الشتوي في روسيا هذا الأسبوع، لكنّ الغطاء الثلجي الكثيف سيحافظ على سلامة البذور.