يُقال إن أحدهم طلب من جاريته أن تطبخ له كذا وكذا، وحدد لها أنواعاً كثيرة من أشهى وألذ أنواع المأكولات والأطعمة الشعبية، فأجابته الجارية: "كلف يا سيدي"، ومن هنا خرج المثل العامي الشهير "اطبخي يا جارية.. كلف يا سيدي".
هذا المثل العامي لا يؤمن به رؤساء دول وحكومات العديد من المنطقة الذين لجأوا إلى التوسع في سياسة إقالة وعزل محافظي البنوك المركزية في بلدانهم عقب تحميل هؤلاء مسؤولية تهاوي العملات الوطنية مقابل الدولار، وحدوث اضطرابات عنيفة في الأسواق، خاصة أسواق الصرف والعملات، وحدوث زيادة قياسية في أسعار السلع ومعدلات التضخم، وتراجع حاد في موارد الدولة من النقد الأجنبي، وهروب الاستثمارات الأجنبية والمحلية على حد سواء.
فعلها رجب طيب أردوغان حينما أقال ثلاثة من محافظي البنك المركزي التركي خلال فترة قصيرة نسبياً لا تتجاوز العام ونصف العام، وقبل أيام أقال نائب محافظ البنك المركزي أوغوزخان أوزباش، وهناك توقعات باستمرار هذه الظاهرة في ظل إصرار الرئاسة التركية على التدخل في شؤون البنك المركزي وإدارة السياسة النقدية خاصة المتعلقة باتجاهات سعري الصرف والفائدة.
أردوغان أقال ثلاثة من محافظي البنك المركزي التركي خلال فترة قصيرة نسبياً لا تتجاوز العام ونصف العام، وقبل أيام أقال نائب محافظ البنك المركزي
وجاءت قرارات الإقالات تلك عقب تحميل كل هؤلاء المحافظين ونوابهم مسؤولية تدهور سعر الليرة مقابل الدولار، رغم أن هناك عدة أسباب وراء هذا التدهور منها تأثيرات كورونا الخطيرة على إيرادات تركيا الأجنبية خاصة من قطاع حيوي كالسياحة، والتوترات السياسية خاصة مع الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، ومحاولة بعض الدول والمؤسسات الدولية المستمرة التلاعب في سوق الصرف التركي وهز ثقة المتعاملين بالليرة.
وأمس الأحد أقال الرئيس الإيراني حسن روحاني محافظ البنك المركزي عبد الناصر همتي من منصبه.
صحيح أن السبب المعلن للعزل هو ترشح همتي للانتخابات الرئاسية الإيرانية المقررة يوم 18 يونيو/ حزيران الجاري، لكن للإقالة خلفيات عدة.
فالمحافظ المُقال رفض طلباً لروحاني بضخّ البنك المركزي ملياري دولار في الأسواق لتهدئة أسواق الصرف ووقف تدهور العملة الإيرانية مقابل الدولار قبل أن يغادر الرئيس الإيراني والحكومة الحالية موقعهما بعد شهرين.
وهناك أطراف محسوبة على روحاني، سواء في البرلمان أو داخل دائرة الحكم، تحمل همتي دوماً مسؤولية استمرار تهاوي الريال وحدوث موجات تضخم في الأسعار، رغم أن الجميع يعرف أن سبب التدهور الرئيسي هو فرض العقوبات الغربية على الاقتصاد الإيراني، وتصفير واشنطن صادرات النفط الإيراني، وتأثيرات وباء كورونا.
بشار الأسد عزل حاكم مصرف سورية المركزي على خلفية ما شهدته سورية من تهاوٍ في قيمة الليرة وفوضى في أسعار الصرف، وتراجع ثقة السوريين بعملتهم
ومنتصف شهر إبريل/ نيسان الماضي، عزل بشار الأسد حاكم مصرف سورية المركزي حازم قرفول، وجاءت الإقالة على خلفية ما شهدته سورية من تهاوٍ في قيمة الليرة السورية وفوضى في أسعار الصرف، وتراجع ثقة السوريين بعملتهم وإقبالهم على شراء الذهب والدولار.
وتكرر المشهد في دول كثيرة بالمنطقة، ففي تونس كانت أزمات تدهور سعر صرف الدينار وهبوط احتياطي النقد الأجنبي وإدراج تونس ضمن القائمة الأوروبية السوداء للدول ذات المخاطر العالية لغسل الأموال ودعم الإرهاب وراء إقالة الشاذلي العياري من منصب محافظ البنك المركزي في عام 2018.
وفي العام 2016 عزل عبد العزيز بوتفليقة محافظ البنك المركزي الجزائري محمد لكصاسي، بحجة الانخفاض المقلق في سعر الدينار مقابل الدولار.
دوماً تحمّل الأنظمة الحاكمة والحكومات محافظي البنوك المركزية مسؤولية إخفاقاتها الاقتصادية وفشلها في كبح أسعار السلع والخدمات والعملات.
لكن هذا يخالف القواعد المتعارف عليها عالمياً، فمحافظ البنك المركزي "موظف محترف" يدير السياسة النقدية وسوق الصرف حسب السيولة المتاحة وبما يتوافر لديه من احتياطيات من النقد الأجنبي.
هو في النهاية لا يضع سياسات لزيادة إيرادات البلاد الدولارية وتنشيطها، خاصة من أنشطة رئيسية مثل الصادرات والسياحة وتحويلات المغتربين وجذب الاستثمارات الأجنبية، فهذه مهمة الحكومات لا مهمة البنوك المركزية.
ومحافظ البنك المركزي لا يدير سياسات مالية واقتصادية تساعد في رفع منسوب احتياطي الدولة من النقد الأجنبي، هو فقط يدير الاحتياطي بشكل آمن وبعيدا عن المخاطر، يساعد صانع السياسة الاقتصادية في زيادة الموارد عن طريق دعم استقرار سوق الصرف وليس عن طريق تقوية العملة المحلية كما يظن البعض، فقوة العملة تؤثر سلباً على إيرادات الدولة من النقد الأجنبي وليس العكس.