بات العالم يحبس أنفاسه كلما ظهرت أنباء عن أزمات يمكنها المساس بالأوضاع الاقتصادية التي لم تكد تتعافى نسبياً من تداعيات فيروس كورونا حتى عاجلتها تداعيات وخيمة للحرب الروسية على أوكرانيا والتي توازت مع بداية رفع سعر الفائدة من البنك الاحتياطي الأميركي، وهو الإجراء الذي من المرجح أن يقذف بالاقتصاد العالمي في قلب موجة ركود طويلة الأجل وفقاً لتحذيرات كثير من الاقتصاديين.
وتصاعدت المخاوف الاقتصادية العالمية مع استمرار إغلاق الصين مدينة شنغهاي، المركز المالي للصين، وإجبار الملايين على التزام منازلهم، في محاولة لمحاصرة بؤرة جديدة لكوفيد-19، وهو الإغلاق الذي ينذر بمزيد من الاضطرابات في سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، خصوصاً أنّ ميناء المدينة هو الأكبر في العالم للحاويات.
وكانت السلطات الصينية قد فضلت فرض حجر على سكان المدينة البالغ عددهم 26 مليون نسمة رغم الكلفة العالية على الاقتصاد، مع تسجيل المدينة حالات وفاة وارتفاع حالات الإصابة. ومع الحجر الصارم قررت آلاف الشركات في المدينة المالية الصاخبة الإقفال خلال فترة الإغلاق، وهو ما سيؤثر سلباً على سلاسل التوريد.
وبالإضافة إلى كون شنغهاي محوراً رئيسياً للصناعة المالية، تعتبر أيضاً مركزاً للإلكترونيات وتصنيع السيارات مثل مصنع تيسلا العملاق، وتمتلك العديد من الشركات متعددة الجنسيات منتجع ديزني الضخم، كما تملك أكثر موانئ الشحن ازدحاماً في العالم.
ويكتسب ميناء شنغهاي الدولي أهميته ليس فقط من كونه واحداً من أوائل الموانئ الصينية التي افتتحت للتبادل التجاري مع دول الغرب إذ افتتح عام 1842، لكن أيضاً للموقع الجغرافي الهام للمدينة التي تقع على ثلاثة طرق شحن كبيرة من بينها نهر يانغتسي الذي يعد ثالث أطول نهر في العالم، بالإضافة إلى كونها العاصمة الاقتصادية للصين.
وتصدر ميناء شنغهاي ترتيب منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" للعام 2019 لأفضل الموانئ في العالم، وتصنيف الموانئ الكبرى يكون وفقاً لحجم الشحنات، أي الكمية التي تُشحن في الحاوية القياسية والتي يبلغ طولها سبعة أمتار تقريباً، أو بحسب وزن الحمولة بالطن.
وبناء على المقياسين، فإنّ ميناء شنغهاي أكبر ميناء في العالم حالياً، إذ يعالج أكثر من 33 مليون حاوية قياسية في العام، كما أنه من أكثر الموانئ ازدحاماً في العالم، وبهذا فهو يتفوّق على ميناءي هونغ كونغ وسنغافورة، نظراً لتجاوز حجم الشحنات المنقولة فيه حجم الشحنات من الميناءين الآخرين.
وفي الوقت الراهن تقف عند أبواب الميناء آلاف من شاحنات النقل الثقيلة، فالسائقون الذين يدخلون المدينة يجب أن يخضعوا أيضا لحجر صحي لمدة أسبوعين على الأقل أينما ذهبوا في الصين لاحقاً، ومن هنا يعد نقص عدد السائقين هو المؤثر السلبي الأكبر على حركة الميناء.
وفي تأكيد على أنّ حجم المشكلة أكبر من ذلك بكثير، صرحت بيتينا شون- بيهانزين نائبة رئيس غرفة التجارة التابعة للاتحاد الأوروبي في شنغهاي، لوكالة فرانس برس، قائلة: " المشكلة هي أنّه بسبب القيود المفروضة على سائقي الشاحنات فالميناء لا يعمل بالفعل".
وتراقب السوق العالمية عن كثب التطورات في الصين، لا سيما في ظل التخوفات من انتشار موجة المتحور أوميكرون الحالية من شنغهاي إلى مدن صينية أخرى، وبالتالي فإنّ التصميم على النهج الحكومي المتعلق بصفر كوفيد استعداداً لانطلاق الألعاب الأوليمبية الشتوية سيتسبب في عمليات إغلاق جماعية ستؤثر سلباً على كلّ من الإنتاج الصناعي والاستهلاك المحلي.
وكرد فعل متوقع لهذه التخوفات انخفضت أسعار النفط لأكثر من مرة خلال الأيام الأخيرة، وهو الأمر الذي تعزز بفعل السحب الكبير من المخزونات النفطية لدى بعض الدول ومنها الولايات المتحدة واليابان في محاولة لتخفيض الأسعار المتصاعدة جراء الحرب على أوكرانيا.
عموماً، يبدو أنّ إغلاق ميناء شنغهاي سيكون مكلفاً للصين كثاني أكبر اقتصاد في العالم، إذ تعتبر شنغهاي إلى جانب كونها أكثر موانئ الشحن ازدحاماً في العالم، محوراً رئيسياً للصناعة المالية، كما تعتبر شنغهاي مركزاً للإلكترونيات وتصنيع السيارات، وهو الأمر الذي قد يتسبب بأزمة جديدة للاقتصاد العالمي المثخن بجراح الأزمات المتلاحقة، لكن في نفس الوقت فإنّ انخفاض أسعار النفط قد يهدئ ولو نسبياً من وحش التضخم الجامح الذي بات يلتهم كل دول العالم.
في الوقت الذي بدأت فيه الولايات المتحدة وأوروبا التعايش مع فيروس كورونا المستجد من خلال رفع القيود كلياً أو جزئياً، وهو ما يشير ليس فقط إلى الرغبة في التعايش مع الفيروس، لكن أيضاً إلى الرغبة الملحة في تعويض الخسائر الاقتصادية الناجمة عن تداعياته، وبالفعل أثمر هذا التعايش نسبياً في نمو فرص العمل ومعدلات النمو.
إلّا أنّ إستراتيجية "صفر كوفيد" التي تتبناها الصين تؤثر سلبياً على الاقتصاد الصيني الذي قد يتراجع عن بعض التقدم الذي حققه خلال الفترة الماضية، وبالطبع من المتوقع أن ينتقل هذا التأثير السلبي إلى الاقتصاد العالمي، إذ يشير تقرير صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية إلى أنّ "التأثير الاقتصادي المباشر لسلالة أوميكرون في الصين يبدو متواضعاً وقصير الأجل نسبياً، لكنّ تأثيره غير المباشر قد يبدو كبيراً إذا لجأت الصين إلى الإغلاقات المتكررة في سعيها لكبح انتشار الفيروس داخل أراضيها".
وفي ذلك تقول، غيتا غوبيناث، نائبة المدير العام لصندوق النقد الدولي إنّ إستراتيجية "صفر كوفيد" التي تتبعها الصين قد تفاقم العراقيل التي تعترض الإمدادات عالمياً، حيث تعد الصين المورد الرئيسي في العالم للسلع الوسيطة، وبحسب منظمة التجارة العالمية، فقد باعت الشركات الصينية إلى مشترين بالخارج سلعاً وسيطة بقيمة 334 مليار دولار خلال الأشهر الثلاثة حتى يونيو/حزيران 2021، أي أكثر بكثير من ثاني أكبر دولة مصدرة، وهي الولايات المتحدة، البالغ مبيعاتها 200 مليار دولار.
وهذا يشير ببساطة إلى أنّ أيّ عرقلة محتملة في إمدادات السلع الوسيطة الصينية سواء من شنغهاي أو من أي مقاطعة أخرى محتملة قد يتسبب في تعويق النمو لقائمة ممتدة من الدول المستوردة لتلك السلع وفي مقدمتها الولايات المتحدة واليابان وألمانيا والهند، بالإضافة إلى كوريا الجنوبية، وكلها من الدول التي تعتبر محركات رئيسية للاقتصاد العالمي، ومن الطبيعي أن تبحث تلك الدول عن شركاء تجاريين جدد، ولكن هل يوجد من يستطيع تعويض غياب ولو جزئيا للمصنع الصيني.
عموماً، فإنّ انتقال تداعيات التباطؤ الاقتصادي لتلك الدول، إلى بقية الاقتصادات حول العالم حين حدوثه سيكون نتيجة متوقعة ومؤلمة للغاية في ظل المعاناة الحالية للشعوب في العالم، خصوصاً الفقيرة منها والتي لن تستطيع تحمل أيّ تداعيات جديدة.