تخيّم العتمة على الكثير من الأنشطة التجارية في مصر، ما يعمق من ركود الأسواق، بفعل برنامج الحكومة لترشيد استهلاك الكهرباء عبر اقتطاع حصص من الغاز الطبيعي الموجه لمحطات الكهرباء بغية تصديرها إلى أوروبا للحصول على العملة الصعبة في الظروف المالية العصيبة التي تواجهها البلاد.
ولطالما كانت الأسواق والمحال التجارية تعول في هذه الفترة التي تتزامن مع تخفيضات موسم الصيف وقرب عودة المدارس، على تحريك المبيعات، لكن تقليص الحكومة ساعات عمل المحال التجارية وخفض الإنارة في الميادين والشوارع، يزيد من أزمة الأسواق.
وأظهر تقرير صادر عن مرصد جهاز تنظيم مرفق الكهرباء وحماية المستهلك الحكومي، تراجع معدلات إنتاج الطاقة من محطات توليد الكهرباء بنحو 10%، بعد شهر من تطبيق برنامج ترشيد الطاقة، الذي قررته الحكومة منتصف أغسطس/آب الماضي.
زيادة الاعتماد على المازوت
وأشار التقرير الذي اطلعت عليه "العربي الجديد"، إلى أن شركات الكهرباء، عادت إلى إنتاج الكهرباء من المازوت في العديد من المحطات. وجاء الاعتماد الأكبر على المازوت بهدف خفض إنتاج التوليد من محطات تعمل بالغاز الطبيعي، تنفيذاً لتعليمات حكومية، بتوجيه 15% من كميات الغاز المستخدمة في المحطات للتصدير للخارج، بينما كانت الحكومة قد أوقفت استخدام المازوت في هذه المحطات الفترة الماضية، لتسببها في زيادة معدلات التلوث، وحاجتها لصيانة دورية مكلفة.
ومثلت محطات المازوت نحو 19% من إجمالي قدرات التوليد، بزيادة 18% عن معدلات التشغيل الطبيعية منذ منتصف أغسطس/آب، في الوقت الذي انخفض فيه إنتاج الكهرباء من المحطات الغازية بنسبة 20%، ليصل إلى نسبة 70% من قدرات التوليد المركبة على الشبكة الموحدة.
ووفق تصريحات صحافية مؤخراً لوزير الكهرباء محمد شاكر، فإن الترشيد الذي شرعت الوزارة في تنفيذه، ليس حرمانا للجمهور من الكهرباء، ولكن يأتي استغلالاً للموارد ومنع الهدر، لوجود فائض كبير في قدرات التوليد، في حاجة إلى إعادة تأهيل وبناء الشبكة الكهربائية الموحدة، لتصدير الفائض للخارج.
وتتراوح قدرات التوليد الزائدة عن احتياجات البلاد، حتى عام 2031، والتي لا تستطيع الوزارة التصرف فيها محليا، أو تصدير الفائض المتاح منها يوميا إلى الدول العربية، ما بين 12.5 ألفا و15 ألف ميغاواط، لضعف في قدرات شبكات النقل الكهربائي، المنتظر الانتهاء منها عام 2026 بين مصر والسعودية، والتي تنقل 3 آلاف ميغاواط، ومع السودان، لترتفع من 80 ميغاواط حالياً إلى 240 ميغاواط، عام 2024، ومع اليونان بعد 7 سنوات، لنقل 3 آلاف ميغاواط.
وجاء ترشيد الكهرباء بينما تلقي الأزمة الاقتصادية بظلال قاتمة على أحياء مصر، حيث فرضت الحكومة العتمة على الميادين الكبرى ليلاً، وأمرت بغلق المحلات ومراكز التسوق والأندية في الحادية عشرة مساءً، بينما تأمل الأسواق التي تعاني من الركود بالأساس في رفع مبيعاتها، مع تخفيضات موسم الصيف ودخول المدارس.
ويبدي تجار ضيقهم من غلق المحال مبكراً، فضلا عن الأعباء المالية الكبيرة التي يتحملونها، في ظل الركود والرسوم والضرائب الحكومية المتعددة.
حلول حكومية للحصول على النقد الأجنبي
في المقابل، تقول الحكومة إنها تبحث عن سبل للحصول على النقد الأجنبي لتدبير احتياجات البلاد، خاصة في ظل زيادة فواتير استيراد السلع. ومؤخرا، قال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، في تصريحات صحافية، إن الحكومة لجأت إلى تقنين استخدام الكهرباء، لتحقيق فائض يعادل 15% من كميات الغاز الطبيعي الذي تضخه وزارة البترول إلى محطات توليد الطاقة بسعر 3 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، بينما يصل سعره في أوروبا إلى 30 دولارا لكل مليون وحدة.
ويقدر مدبولي الوفر المالي من مشروع التقنين، بنحو 450 مليون دولار شهرياً، في حال بيعه إلى أوروبا المتعطشة للغاز، والتي تخشى من شتاء قارس يبدأ في أكتوبر/تشرين الأول المقبل بفعل تقلص الإمدادات الروسية.
وتوقع محمد سعد الدين، وكيل لجنة الطاقة في مجلس النواب (البرلمان)، أن ترتفع صادرات مصر من الغاز الطبيعي العام الحالي إلى 12 مليار دولار، بدلاً من 4 مليارات دولار في 2021. موضحا في تصريحات صحافية، قبل أيام، أن إنتاج الغاز ارتفع إلى 7.2 مليارات قدم مكعب يومياً، بينما تستهلك البلاد نحو 6.2 مليارات قدم مكعب، بما يسمح بتصدير نحو مليار قدم مكعب.
وتقول مصادر في وزارة البترول، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن الحكومة لديها رغبة في زيادة إنتاج الغاز الموجه للتصدير، لتحقيق عوائد جيدة، مع توقع المزيد من الارتفاع في أسعار الغاز والكهرباء في أوروبا، لاسيما في ظل احتياج البلاد إلى العملة الصعبة، خاصة مع تأخر توقيع اتفاق للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي.
لكن رشاد عبده، الخبير الاقتصادي، يبدى في تصريح لـ"العربي الجديد"، دهشته من عدم استغلال الحكومة لأزمة الطاقة في أوروبا بشكل أعمق من مجرد تصدير الغاز إليها، موضحا: "يمكن أن نستفيد إذا ما قامت الحكومة بحملات ترويج سياحي واسعة، بين الأوروبيين، لدعوتهم إلى الإقامة في الفنادق والقرى السياحية المصرية، باعتبارها فرصة رخيصة التكلفة خاصة خلال فصل الشتاء".
وتساءل عبده: "لماذا لا نبيع للأوروبيين الكهرباء أيضا والمنتجات المحلية، عندما يأتون لبلادنا"، معربا عن أمله في أن تكون السياحة هي العنصر المحرك للأنشطة الاقتصادية، بما لديها من طاقات فندقية ومنتجعات قائمة بالفعل، تستطيع جذب ملايين السائحين، الأيام المقبلة، وتحقيق عوائد لا تقل عن 30 مليار دولار سنوياً.
جذب الأوروبيين
في السياق، اعتبر محمد المنزلاوي، وكيل لجنة الصناعة والمشروعات الصغيرة في مجلس الشيوخ، في بيان له، أن أزمة الوقود في أوروبا يمكن أن تساعد في تحول كثير من الصناعات كثيفة استخدام الطاقة للعمل في مصر، في ظل توافر الغاز والكهرباء بأسعار منخفضة.
وأشار المنزلاوي إلى أهمية أن تعمل الحكومة على جذب الصناعات التي تشجع العمالة الكثيفة، وتساهم في دمج الاقتصاد الموازي الذي يمثل 40% من حركة الاقتصاد الرسمي، والذي يقدر بنحو 475 مليار جنيه، في الاقتصاد الرسمي، بما يحسن المشروعات الصناعية والحرفية والزراعية.
لكن رشاد عبده، يرى أن الصناعة في مصر تواجه مشاكل عدة بالأساس، أهمها كثرة المعوقات وارتفاع تكلفة التشغيل، وبالتالي نقل صناعات أوروبية إلى مصر في مثل هذه الظروف مستبعد. ونصح بأن "تعمل الحكومة على استغلال الكهرباء والغاز الرخيص محلياً، لتحقق دخلا أفضل من عوائد التصدير بمراحل، لا سيما أن لدينا فائضا ضخما من الكهرباء".