تبدأ سلسلة جديدة من الإضرابات في بريطانيا، اليوم الثلاثاء، والتي يخوضها عمّال السكك الحديدية والممرضات والمسعفون جنباً إلى جنب، في وجه حكومة حزب المحافظين التي تبدو مع العام الجديد أكثر انفصالاً عن الواقع مما كانت عليه العام الماضي.
وربما سيكون الأسبوعان المقبلان الأصعب والأكثر إيلاماً من حيث التأثير الذي ستتسبّب فيه إضرابات قطاعات حيوية مع العودة إلى ساعات العمل المعتادة، بعد أسبوعين من عطل أعياد عيد الميلاد ورأس السنة، كما أنّ من شأن هذا "الشلل" أن يضرب الاقتصاد، حيث سيعوق مبيعات شهر يناير/ كانون الثاني التي تعتبر حاسمة بالنسبة لتجّار التجزئة، بحسب بيانات "بلومبيرغ".
وتأتي هذه الاحتجاجات المستمرة منذ مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي، تعبيراً عن الغضب المتزايد من غلاء المعيشة الذي لم يختبره من قبل ملايين البريطانيين، إذ بلغ التضخم العام الماضي أعلى مستوى له منذ أربعة عقود، وسط تدني الأجور وتردّي الخدمات العامة.
كما تأتي إضرابات الممرضات وسائقي سيارات الإسعاف في الوقت الذي يشهد فيه القطاع الصحي ضغوطاً هائلة خلّفها تصاعد عدد الإصابات بكوفيد-19 نظراً لإلغاء كل القيود المرتبطة بالوباء، فضلاً عن الأرقام المتزايدة للمصابين بالإنفلونزا الموسمية ممن تستدعي حالاتهم دخول المستشفى، وقد بلغت نسبة المرضى المصابين بالإنفلونزا الموجودين اليوم في وحدات العناية المركزة، خمسة أضعاف ما كانت عليه خلال السنتين السابقتين، بحسب وزارة الصحة البريطانية.
ويبدو لافتاً تمسّك رئيس الحكومة ريشي سوناك برؤيته الاقتصادية المتمثلة بعدم رفع الأجور بهدف السيطرة على التضخّم، في الوقت الذي يكافح فيه المواطنون لإطعام أبنائهم وتأمين بعض الدفء في بيوتهم، ولسداد أقساط الطاقة والغاز والضرائب والإيجارات والرهن العقاري.
وإن بدت وجهة نظر سوناك هذه "حصيفة" الصيف الماضي مع خوضه السباق إلى "داونينغ ستريت" ضدّ منافسته ليز تراس، إلا أنها اليوم تبدو أكثر انفصالاً عن الواقع في مواجهة فصل الشتاء والصقيع والأمراض المعدية وغلاء المعيشة.
تشريع حكومي لتقييد الإضرابات
ومن المتوقع أن تشهد عودة البرلمان، يوم الإثنين المقبل، اقتراحاً حكومياً بتمرير تشريع جديد يقيّد حقوق النقابات في تنظيم هذه الإضرابات، ويفرض عليها مزيدا من الشروط الصارمة.
وقال الأمين العام لاتحاد إدارة الغذاء والدواء وممثّل موظفي الخدمة المدنية ديف بنمان، إنّ التشريع الحكومي المناهض للإضراب "لن يحل مشكلة الأجور المنخفضة التي تسببت في تعليق العمل واسع النطاق في العديد من القطاعات".
وأضاف، في تصريحات إعلامية، أن الحكومة حصلت على الأغلبية بالفعل، إلا أنها لو استطاعت تمرير هذا التشريع في مجلس العموم واللوردات "سنسعى للطعن به لأنه غير قانوني، ولن يؤدي إلى حل أي من هذه الخلافات".
يبدو لافتاً تمسّك رئيس الحكومة ريشي سوناك برؤيته الاقتصادية المتمثلة بعدم رفع الأجور بهدف السيطرة على التضخّم
وفي حين توقّف حزب العمال المعارض عن دعم الكثير من النقابات العمالية التي تخوض إضرابات، مطالباً نوّابه بعدم المشاركة ولا بأي شكل من الأشكال في الاعتصامات، إلا أنّ زعيمه كير ستارمر أعلن أنّ حزبه لا يدعم المزيد من القيود التي تنوي الحكومة فرضها على الإضراب، بينما صرّحت نائبته أنجيلا راينر عن رغبتها في إلغاء جميع التشريعات الحكومية المناهضة للعمّال.
ولم تكشف الحكومة البريطانية بعد عن تفاصيل التشريع، إلا أنّ المعلومات المتوفرة حتى الآن تشير إلى أنّ الخطة التي يدرسها سوناك ستفرض على قطاع السكك الحديدية، حدّاً أدنى من مستويات الخدمة في النقل العام، ما يعني أنّ 20% من الخدمات ستلتزم بالعمل كالمعتاد حتى أثناء فترة الإضراب، على أن يشمل الحد الأدنى هذا، العاملين في القطاع الصحي أيضاً، وموظّفي الإسعاف، والمعلمين، وقوات الحدود، وخدمات الإطفاء.
استمرار التضخم
وفي سياق متصل، أظهر استطلاع للرأي أجرته "فاينانشال تايمز" مع أكثر من مئة من كبار الاقتصاديين في المملكة المتحدة، إجماعاً على أنّ "الصدمة التضخمية الناجمة عن الوباء وعن الغزو الروسي على أوكرانيا، ستستمرّ في المملكة لفترة أطول من أي رقعة أخرى".
كما أجمع المشاركون في الاستطلاع على "أننا سنواجه واحدة من أسوأ فترات الركود وأضعف حالات التعافي في مجموعة السبع العام المقبل"، حيث إن الأسر البريطانية تدفع ثمناً باهظاً لإخفاقات الحكومة.
ووصف الاقتصاديون المشاركون العام المقبل بـ"القاسي" و"الكئيب" و"القاتم" و"البائس". كما توقّعوا أن تستمرّ حالة الركود هذه حتى بداية العام المقبل على أقلّ تقدير، ما يعني أنّ حزب المحافظين لن يسعفه الوقت قبل الانتخابات العامة المقررة بحلول يناير/ كانون الثاني 2025 على أبعد تقدير.
كل هذا وسط الفجوة التي وصلت إلى مستويات تاريخية بين أجور القطاعين العام والخاص، إضافة إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وقطع الروابط التجارية، ما جعل المملكة المتحدة الوحيدة في مجموعة الدول السبع التي لم يستعد اقتصادها بعد، حجمه قبل الوباء.
ومع أنّ هذه الأيام القاتمة التي تشهدها المملكة، تعيد إلى الذاكرة "شتاء الغضب" الذي أسقط حكومة حزب العمال، بعد رفضها الاستجابة لمطالب رفع الأجور، "متسلّحة" بالرؤية ذاتها التي يتمسك بها سوناك اليوم، إلا أن حكومة المحافظين لا ترى في أحداث السبعينيات، وفي الإضرابات الشبيهة اليوم، أي خطر، كما أنها لم تستقِ منها أي درس.
وقال وزير الدفاع بن والاس، الأسبوع الماضي: "لن نعود إلى السبعينيات عندما اعتقدت النقابات العمالية أنها تدير الحكومة". إلا أن هذا التجاهل محفوف بمخاطر جسيمة بالنسبة لحكومة المحافظين التي تترّأس السلطة منذ 12 عاماً، متسبّبة بتراكمات من الإخفاقات السياسية والاقتصادية يصعب الشفاء منها قبل موعد الانتخابات العامة المقبلة.