القضايا الكبرى التي تعاني منها الدول، تتطلب مسؤولين ذوي كفاءة، يحيطون بواقع تلك القضايا وتأثيراتها السلبية، وكيفية معالجتها بأقل تكلفة على المجتمع، وهذا الأداء، هو من يأتي بحكومات ويطيح أخرى، ولعل تجارب لولا دا سيلفا في البرازيل وتعامله مع قضية الفقر خير مثال على الإدارة الاقتصادية والسياسية الناجحة، إذ كان أمام هدف محدد وهو معدل صفر للفقر في بلاده.
كذلك مهاتير محمد في ماليزيا، وغيرهما في الدول الصاعدة، التي غيرت وجهة تلك الدول من دول نامية إلى دول صاعدة، تستهدف مزاحمة الدول المتقدمة، لكن الواقع في مصر، يجعلنا نقلق على مستقبل التنمية، ومدى كفاءة الإدارة الاقتصادية لإدارة هذه المرحلة، خاصة أن الإدارة الحالية، زادت من مشكلات مصر الاقتصادية والاجتماعية، من خلال زيادة الديون العامة، أو استمرار التبعية للخارج في المجال الاقتصادي، أو التفريط في الموارد الاقتصادية الاستراتيجية، مثل مياه نهر النيل، وآبار غاز شرق المتوسط، والتعامل بجرأة غير محسوبة مع أصول قطاع الأعمال العام سواء بالتصفية أو الخصخصة.
إرهاق الأجيال القادمة
في قضية مهمة مثل الديون العامة، وجدنا الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، تصرح مؤخرًا في برنامج على فضائية النهار، بأن الأجيال القادمة هي من ستقوم بسداد القروض، فضلًا عن تصريح بأن عملية الاقتراض لا تتم من أجل الإنفاق على الطعام والشراب، وهي تصريحات لا تتفق مع واقع أداء الموازنة العامة للدولة، فضلًا عن غياب تقديم رؤية للتعامل مع ملف الديون، من حيث كيفية تدبير التمويل اللازم لتمويل التنمية بعيدًا عن آلية الديون.
لقد قفزت الديون المحلية من 1.57 تريليون جنيه في يونيو/حزيران 2013 إلى 4.7 تريليونات جنيه في ديسمبر/كانون الأول 2020، وفق بيانات النشرة الإحصائية للبنك المركزي، كما قفزت الديون الخارجية من 43 مليار دولار في يونيو 2013 إلى 129.1 في ديسمبر 2020.
ومن غير المعقول استيعاب أن كل هذه الديون تم توجيهها إلى البرامج والمشروعات الإنتاجية، خاصة أن عجز الموازنة العامة يدور في فلك 30 مليار دولار سنويًا على مدار السنوات الماضية، والمعلوم أن بنود الموازنة وأبوابها الستة للإنفاق العام لا تحتوي سوى نسبة تقل عن 10% من إجمالي الإنفاق العام، توجه للاستثمار الحكومي، وغالبيتها تذهب للإنشاءات والطرق والمباني الحكومية.
كان المنتظر أن تقدم الوزيرة رؤية الحكومة لمعالجة قضية الديون، وكيفية التخلص منها، خاصة في ظل حديث الحكومة عن معدلات النمو المتزايد، والتي لا يوجد لها أثر ملموس في حياة الناس، ويصدق على ذلك أنه في ظل حديث الحكومة وتفاخرها بزيادة معدلات النمو الاقتصادي، نجد تصريح وزيرة التضامن الاجتماعي مطلع عام 2021، بوجود 8.5 ملايين أسرة فقيرة في مصر، تضم 32 مليون شخص، فكيف تجتمع زيادة معدلات النمو مع زيادة معدلات الفقر؟ إلا إذا كان هناك غياب لعدالة توزيع الثروة، واحتكار فئات قليلة معينة تستفيد من زيادة معدلات النمو.
المجتمع المصري كان ينتظر من وزيرة التخطيط، إعلان برنامج زمني للتعامل مع قضية الديون، لتعود إلى معدلاتها الطبيعية عن سقف أقل من 60% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وليس الهروب للأمام وتحميل الأجيال القادمة مسؤولية سداد الديون التي ورطتها فيها حكومات السيسي.
أزمة تنمية الريف
ثمة تصريحان للسيسي متعلقان بتنمية الريف خلال الأيام القليلة الماضية، يثيران الاستغراب حول تصوره إدارة التنمية في الريف، أولها ما ذكره عن تمنياته بالقيام بعمليات دهان لمباني الريف، وأنه إذا كُلفت الحكومة بذلك فإن المقابل هو إلغاء بطاقات التموين لمدة ثلاث سنوات.
وأكبر آفة يمكن رصدها في طريقة تعامل السيسي مع مشكلات وقضايا مصر بشكل عام، أنه يفكر بمفرده، وتخيله أنه أوتي كل مقومات التفكير واتخاذ القرار السليم.
فالتجارب الناجحة في إدارة التنمية تركز على ما يعرف بالتنمية بالمشاركة، حيث تساعد كافة مكونات المجتمع في عملية التخطيط وترتب الأولويات، لتتناسب مع طبيعة الموارد المتاحة، أما أن يخير الناس بين بديلين، أحدهما ضروري يمس حياة قطاع كبير من الفقراء وهو الدعم الخاص بالسلع التموينية، وأحلام لحكومة غير منتخبة، وتعبر عن مطالب غير ضرورية كدهان المنازل، فهذه صورة من صور غياب الرؤية السليمة للتنمية، وسواء الإدارة الاقتصادية.
أما المقترح الثاني للسيسي الذي أتى من خلال سؤاله وزير الدفاع، بإمكانية أن يتم الدفع بضابط من القوات المسلحة، ليشرف على دهان المنازل في الريف، ليرى الناس الفارق بين منجزات الإدارة المدنية، ومنجزات ضباط الجيش، فهذا أمر عجيب.
طريقة التفكير هذه، والتي يطرحها السيسي تنم عن فقدان الثقة في المجتمع المدني، وممارسة احتكار السلطة والثروة في مصر لمصلحة القوات المسلحة. التنمية ضرورية في الريف المصري، بجوار إمداده بالبنية الأساسية من مياه صالحة للشرب، والصرف الصحي الآمن، ومرافق المؤسسات التعليمية والصحية، وأن يتوفر للريف أنشطة إنتاجية، تعيده إلى محاضن الإنتاج كما كان سالفاً، بعد أن حولته سياسات الحكومات على مدار نحو خمسة عقود إلى مجرد مجتمع استهلاكي.
كما يحتاج الريف إلى أن يتمتع بحقوقه في الحرية والحياة السياسية التي تتسم بالديمقراطية، حتى يمكنه مراقبة الحكومة عبر المؤسسات الديمقراطية المنتخبة، ويعرف طريقه إلى مكافحة الفساد داخل الجهاز الإداري الحكومي، فالتنمية في أجل صورها هي الإنسان وحريته، وليس مجرد مبانٍ يتم طلاؤها بلون واحد، فداخل البيوت المزينة، مصر بحاجة إلى إنسان قادر على صناعة التنمية في ظل مناخ إيجابي، وليس إلى مجرد قرارات عسكرية، يعيشها في ظلها أجواء الرعب، واستمرار العمل تحت وطأة عصا الأمن الغليظة.
احتياجات حقيقية للريف
من حق الفلاح المصري وساكني الريف التمتع بحياة كريمة، وبيوت آدمية، ولكن هذا لا يتأتى في ظل تهديد كبير للفلاحين، بسبب العجز المنتظر في مياه النيل في ضوء استمرار إثيوبيا في تشييد سد النهضة، وفي ظل الموقف السلبي للحكومة المصرية، والذي ينبئ عن تنازلها عن جزء كبير من حصة مصر من المياه، بسبب القرارات المنفردة للسيسي بالتصديق على اتفاقية المبادئ مع إثيوبيا ومصر في عام 2015.
كما يحتاج الفلاح المصري إلى الإنصاف من الحكومة من خلال تخفيف الأعباء عليه بالنسبة لتكاليف الإنتاج الزراعي، فبعد أن أصبح مجردًا من كل أنواع الدعم الحكومي في مجال الزراعة، أتت التشريعات الأخيرة، لتحاسبه على مياه الري من الترع العامة، وتحميله أعباء صيانة وتطوير وتبطين الترع.
الفلاح المصري يحتاج إلى وقوف الحكومة معه في مواجهة التجار الذين يبخسون أسعار منتجاته، بل الحكومة نفسها تفعل ذلك، حيث يأتي موسم القمح من كل عام ليجد الفلاح نفسه في مواجهة الحكومة، حين تعرض عليه أسعار لا تتناسب مع التكلفة والمجهود الذي بُذل خلال العام، ويكون أمام أمرين أحلاهما مر، إما أن يورد للحكومة بالأسعار غير العادلة، أو يقع تحت وطأة احتكار تجار القطاع الخاص.
إن ما يطرحه السيسي لتطوير الريف، ليس إلا محاولة لوجود أعمال تساعد على سيطرة الجيش على مقدرات الاقتصاد المدني من جهة، والهروب إلى الأمام من جهة أخرى، بحيث لا يكون أمام مواجهة المشكلات الحقيقية للمجتمع المصري.