أول إضرابات إسرائيل في وقت الحرب

06 سبتمبر 2024
مظاهرة في تل أبيب تطالب بوقف الحرب على غزة، 5 سبتمبر 2024 (سعيد غاق/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **إضراب الهستدروت وتأثيره**: دعا الاتحاد العام للعمال في إسرائيل (الهستدروت) إلى إضراب عام لمدة يومين للمطالبة بإطلاق سراح الأسرى، مما كلف الاقتصاد الإسرائيلي 1.6 مليار دولار وأدى إلى تعطيل الخدمات الطبية، إغلاق البنوك، وإيقاف حركة النقل والمطارات.

- **تداعيات الحرب**: الحرب أدت إلى إخلاء المدن وارتفاع البطالة إلى 20%. قطاع التكنولوجيا تضرر بشدة مع تجنيد 360 ألفاً من قوة العمل، وتأجيل أو إلغاء اتفاقيات الاستثمار.

- **تسييس القضاء**: محاولات نتنياهو لتعديل القضاء أدت إلى إضراب كبير في 2023، مما زاد الانقسام في المجتمع الإسرائيلي والتحريض من اليمين المتطرف ضد اتحاد النقابات.

لأول مرة في تاريخ الكيان الصهيوني منذ سنة 1948، يدعو الاتحاد العام للعمال في إسرائيل، الهستدروت، إلى إضراب عام عن العمل وينفذه لمدة يومين في وقت الحرب، للمطالبة بصفقة تبادل فورية لإطلاق سراح الأسرى المحتجزين لدى فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، بعد وصول جثامين ستة من الأسرى إلى إسرائيل. وفي ظل التعتيم الحكومي على الخسائر المتعلقة بالإضراب الذي استمر حتى منتصف اليوم الأول فقط، قدّرت صحيفة يديعوت أحرونوت خسائر الاقتصاد الإسرائيلي المبدئية بسبب الإضراب بنحو 1.6 مليار دولار.

وأثبتت المشاركة الواسعة في الإضراب أن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، الرافض لصفقة تبادل الأسرى، أحدث شرخاً جديداً في المجتمع الإسرائيلي الذي دائماً ما يتوحد خلف قيادته في وقت الحرب، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. ولأول مرة ينظم الهستدروت إضراباً لوقف حرب ضد الفلسطينيين، ليس رفضاً لمبدأ العدوان، ولكن لإبرام صفقة لتبادل الأسرى، متضمنة وقفاً للحرب المستمرة منذ أحد عشر شهراً.

وقد شارك في الإضراب معظم النقابات الكبيرة والمؤثرة، مثل نقابات الأطباء والمعلمين والمزارعين والمقاولين وشركات الأمن. وتسبب الإضراب في تعطيل الخدمات الطبية جزئياً في المستشفيات في مناطق واسعة من إسرائيل، وتوقفت البنوك تماماً عن العمل، وأغلقت آلاف المتاجر والمصانع أبوابها، وفق الصحف الإسرائيلية.

وشارك عمال ميناء حيفا التجاري في الإضراب، وهو الميناء الرئيسي في إسرائيل وبوابة الواردات الغذائية والعسكرية الأهم في وقت الحرب. وشُلت حركة النقل داخل المدن وبينها. وامتنع العاملون في مطار بن غوريون عن خدمة المسافرين، وهو المطار الرئيسي للنقل الجوي في إسرائيل. وعلى الرغم من أن الرحلات القادمة كانت لا تزال تهبط، لكن توقفت خدمة النقل بالحافلات في المطار، وتوقف سير نقل الحقائب.

وكشف المتحدث باسم الهستدروت عن مشاركة واسعة النطاق للإضراب في القطاع العام، الذي ينضوي معظمه تحت إشراف الهستدروت، ويشمل الخدمات الحكومية المتعلقة مباشرة بالمواطنين، مثل خدمة التشغيل، ومعهد التأمين الوطني، وشركات المياه، والوزارات الحكومية. وأعلنت السلطات والإدارات المحلية، باستثناء القدس المرتبطة باليمين السياسي، انضمامها إلى الإضراب، منها تل أبيب وحيفا وجفعاتايم وكفار سابا. وشاركت شركات الحافلات إيجيد ودان وميتروبولين، والقطار الخفيف في القدس وجوش دان وحيفا.

الهستدروت، اتحاد النقابات العمالية في إسرائيل، قوة فاعلة في المجتمع، فهو يمثل نحو 800 ألف عامل من 27 نقابة منفصلة. ولعب دوراً محورياً في تأسيس دولة إسرائيل. فقد تأسس في عام 1920 قبل إعلان قيام إسرائيل الدولة بأكثر من ربع قرن. في البداية، كان الغرض من تأسيس الاتحاد تلبية احتياجات العمال في وقت الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي كانت تحت الإدارة البريطانية آنذاك، وإرساء الأساس لتأسيس إسرائيل الدولة. كذلك ساعد الاتحاد في تأسيس المؤسسات الصناعية والمالية والاقتصادية التي نشأت على أكتافها الدولة في عام 1948. وأصبح الزعيم المؤسس للاتحاد، ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل.

ويضم الهستدروت عمالاً من معظم قطاعات الأعمال والاقتصاد في إسرائيل، الزراعية، الصناعية، وكالات تسويق وتوزيع السلع الاستهلاكية، ومؤسسات البناء التي تتولى إقامة المستوطنات والمنشآت العامة. ويتدخل في تحديد معدلات الأجور وظروف العمل في القطاع الخاص. تشارك المؤسسات وشركات الهستدروت بأكثر من 20% من الدخل القومي في إسرائيل، وتنضوي تحته الخدمات الصحية، التأمين الاجتماعي، العاملون في المدارس الثانوية والفنية، المسارح ومطابع الكتب والصحف.

إضراب لانهيار الاقتصاد

من التناقضات المستجدة على المجتمع الإسرائيلي تحت حكومة نتنياهو، أن منظمات أصحاب الأعمال والشركات الخاصة شاركت اتحاد العمال في الإضراب وسمحت لموظفيها بالتوقف عن العمل. وأعلن منتدى الأعمال الإسرائيلي، الذي يضم 200 من كبار المديرين لأكبر الشركات في إسرائيل، أن أعضاءه يشاركون في الإضراب بإغلاق أبواب الشركات.

تفهمت محكمة العمل الإسرائيلية دعوة اتحاد العمال إلى الإضراب بسبب نزف الاقتصاد وخسائر رجال الأعمال، ولم تتدخل عشية يوم الاثنين عندما دعا الهستدروت إلى الإضراب. وهذا ما يفسر مشاركة أصحاب العمل في الإضراب، ويؤكد التقارير التي تحدثت عن قوة الضربة التي تلقاها الاقتصاد الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر، والتي لا تقل عن الصدمة التي تلقاها الجيش في ذلك اليوم على أيدي رجال المقاومة الفلسطينية.

ورغم الدعم الأميركي غير المحدود والتعتيم الحكومي على تداعيات الحرب على الاقتصاد، كشفت صحيفة فايننشال تايمز أنه نتيجة لإخلاء المدن والبلدات والقرى والمستوطنات لأسباب أمنية في أجزاء مختلفة من إسرائيل، خصوصاً في غلاف غزة وجنوب لبنان، وكذلك إغلاق المؤسسات التعليمية واستدعاء جنود الاحتياط، بعضهم من المهندسين في قطاع التكنولوجيا الفائقة، أصبح 764 ألف إسرائيلي عاطلين من العمل، وهو رقم يعادل 20% من القوة العاملة في إسرائيل. وهي نسبة كافية وكفيلة بانهيار أي اقتصاد وخسارة أي استثمار.

وبعد أسبوعين فقط من بداية الحرب، كشف تقرير صدر عن مركز ستارت أب نيشن سنترال للأبحاث أن قطاع التكنولوجيا، الذي يشكل العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي، ويشارك بـ18% من الناتج المحلي الإجمالي ويشكل نصف الصادرات، تعرّض لصدمة وخسارة فادحة بسبب الحرب التي كانت في أيامها الأولى، وذلك بسبب قرار نتنياهو تجنيد 360 ألفاً من قوة العمل، معظمهم من الشباب أصحاب العقول العاملين في مجال التكنولوجيا.

وبعكس ما تعلنه الحكومة من آثار محدودة للحرب على الاقتصاد، رصد التقرير تضرر 80% من شركات التكنولوجيا بسبب الحرب. وأكدت 25% من الشركات أنها تعاني من "خسائر مزدوجة"، سواء من حيث نقص الموارد البشرية، حيث لم يسلم مهندسو قطاع الصناعة والتكنولوجيا الفائقة من التجنيد في الجيش، تحت شعار النضال المقدس، أو اختفاء رأس المال الاستثماري، الذي هرب من ساحة الحرب، التي تدور رحاها لأول مرة في تاريخ إسرائيل داخل الدولة، في مدنها ومصانعها ومزارعها.

ولم يعد المستثمرون مطمئنين على استثماراتهم، في ظل الانهيار السريع للوضع الأمني داخل الدولة اليهودية. وبحسب التقرير، أفادت 40% من شركات التكنولوجيا بأن اتفاقيات الاستثمار تم تأجيلها أو إلغاؤها، فيما تمكنت 10% فقط من الشركات من عقد اجتماعات مع المستثمرين.

وكشفت دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية عن أن شركة واحدة من كل ثلاث شركات، أغلقت أبوابها بنسبة 33%، أو تعمل بنسبة 20% فقط من طاقتها، وبالتالي تحقق خسائر، لأن الإيرادات لا تغطي تكاليف التشغيل. وقدرت خسائر شركات القطاع الخاص بأكثر من 50% من إيراداته، وقالت إن الخسائر تتركز في الجنوب، حيث أوقف ثلثا الشركات عملياتها أو استمرت في العمل بأقل طاقة.

تسييس القضاء في إسرائيل

تعتمد إسرائيل في تماسكها الداخلي طوال 76 سنة، رغم تشكّلها من 70 جنسية مختلفة اللغات والثقافات والعادات، على قوة الجيش واستقلال القضاء. ولم يحدث أن حاول رئيس وزراء في إسرائيل تسييس القضاء خوفاً من تمزيق الوحدة الوطنية، كما حاول نتنياهو تمرير التعديلات القضائية التي تنال من منظومة القضاء وتغلّ يده عن أن تضبط عمل الحكومة المنتخبة. ومرة أخرى حاول نتنياهو استخدام القضاء في إفشال الإضراب قبل موعده، بدعوى أن إعلان الإضراب جاء لأسباب سياسية.

ذلك أن الإضرابات السياسية غير قانونية في إسرائيل. أما الإضرابات التي تختلط فيها الأسباب السياسية والاقتصادية، فتتجاوز الخيط الرفيع وتصبح قانونية. لذلك، أعلن رئيس الاتحاد، أرنون بار ديفيد، أن سبب الدعوة إلى الإضراب هو القلق بشأن انهيار اقتصاد إسرائيل نتيجة للحرب، وليس بدافع سياسي، وهو ما تحاول حكومة نتنياهو إخفاءه.

لكن رئيس الهستدروت نجح في الدعوة إلى الإضراب وتنفيذه منذ الصباح وحتى منتصف يوم الاثنين، رغم العداء القديم بين نتنياهو وإدارة الهستدروت، حيث نظم الأخير في أوائل عام 2023 واحداً من أكبر الإضرابات الداخلية في إسرائيل منذ عقود، لإجبار نتنياهو على التراجع عن قرار إقالة وزير الدفاع، يوآف غالانت، ووقف التعديلات القضائية الرامية إلى الحد من قدرة المحكمة العليا على إلغاء قرارات المسؤولين المنتخبين. الإضراب أوقف عجلة الاقتصاد الإسرائيلي وهزّ استقراره، ما دفع نتنياهو إلى التراجع عن إقالة غالانت وتعليق الخطة القضائية.

وبسبب قوة الهستدروت واتساع رقعة الإضراب وضعف الحكومة، تقدمت الأخيرة عبر وزير المالية اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريش، التماساً إلى محكمة العمل لإنهاء الإضراب، باعتبار أن الدعوة إليه لا تتعلق بظروف العمل أو مشاكل العمال، وإنما هي دعوة سياسية ضد الحكومة، ولا تتفق، بالتالي، مع أسباب وجود "الهستدروت" والنظم التي تحكم تحركاته.

وأكد ساسة إسرائيليون أن المحكمة تعرضت لضغوط هائلة من قبل الحكومة حتى أصدرت قرار تعليق الإضراب بعد منتصف اليوم الأول. وحالياً، تعرّض اتحاد النقابات لحملة واسعة من التحريض من قبل اليمين المتطرف، ونقلت القناة 12 الإسرائيلية أن نواباً من الليكود يطالبون بإصدار قوانين تمسّ اتحاد النقابات للحد من صلاحياته وسلطاته، رداً على دعوة الإضراب، على غرار قوانين السلطة القضائية. وإذا كان نتنياهو قد نجح، حتى الآن، في تفويت الفرصة على اتحاد العمل لوقف الحرب، فقد نجح كذلك في إحداث انقسام في المجتمع في ظل الحرب، من خلال تسييس القضاء، وربما يجني، هو والمجتمع الإسرائيلي كله، ثمرته المُرة في وقت غير بعيد.

المساهمون