ما إن هدأت أسواق الطاقة وموجة الغلاء في أوروبا في الأسابيع الماضية، حتى أطلت بوادر أزمة جديدة برأسها ربما تكون أشد وطأة لتأثيرها السريع والمباشر على حياة الناس، إذ تستعد الأسواق لما وصفه مختصون في قطاع الطاقة بفوضى فبراير/ شباط، إذ من المقرر حظر الديزل الروسي المنقول بحراً في الخامس من هذا الشهر، والتوجه نحو فرض سقف على أسعاره.
ويعد استبدال الديزل الروسي، أحد أصعب التحديات بالنسبة للقارة الباردة، إذ تعتمد الكثير من القطاعات الحيوية على هذه المادة بدءاً من تشغيل السيارات والشاحنات والآلات الزراعية وحتى نقل السلع ومعدات التصنيع والبناء وإبحار السفن، ما يجعل استبدال المشتقات الروسية أكثر كلفة ويعيد التضخم الذي هدأ قليلاً في الأسابيع الماضية إلى الصعود ويعيد القلق إلى الحكومات من السخط الشعبي.
التجار يسارعون إلى شراء الديزل الروسي
ورغم العقوبات الغربية الواسعة ضد روسيا رداً على غزوها أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، فإنّ عام 2022 عموماً شهد شحن نحو 220 مليون برميل ديزل إلى الكتلة الأوروبية من الموانئ الروسية.
وقبل الحظر الأوروبي المرتقب، سارع التجار إلى شراء الديزل الروسي، حيث بلغت التدفقات إلى صهاريج التخزين أعلى مستوياتها في عام، وفق بيانات تتبع الشحنات، إذ يسود القلق مما سيحدث في الأسواق، بخاصة في ظل الريبة من قدرة الولايات المتحدة على إسعاف الأوروبيين بهذه المادة على غرار ما حدث في إمدادات الغاز الطبيعي المسال في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا وتقلص التدفقات، إذ تواجه أميركا ضغوطاً في إنتاج المشتقات النفطية ومنها الديزل وتزايداً في الاستهلاك في هذه الفترة.
ويتزامن حظر الديزل الروسي مع إضرابات في قطاع النفط الفرنسي ما يزيد من تعقيد الصورة، وذلك نظراً لاحتمال حدوث اضطرابات في مصافي التكرير هناك، ما قد يقلل بدوره من حجم إنتاج دول الاتحاد الأوروبي. وإذا لم يتمكن المشترون الأوروبيون من العثور على إمدادات بديلة، فستتحمل القطاعات التي تعتمد على الديزل تكاليف جديدة، وفق وكالة بلومبيرغ الأميركية.
ولا تبدو احتمالات اللجوء إلى المصافي الصينية المعروفة بـ"أباريق الشاي" مضمونة، إذ تتوقف الإمدادات البديلة على ما إذا كانت المصافي الصينية ستُصدّر مزيداً من النفط، بخاصة مع انفتاح اقتصاد البلاد مجدداً بعدما تخلت بكين عن سياسة "صفر كوفيد" الصارمة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
وبينما يأمل قادة الاتحاد الأوروبي أن تؤثر العقوبات الجديدة على الأوضاع المالية لروسيا من دون التسبب في صدمة بإمدادات الطاقة، فإنّ حظر الديزل الروسي المنقول بحراً، قد يكون مختلفاً تماماً، إذ ينذر ذلك بتغير خريطة سوق المشتقات النفطية ليس على الصعيد الأوروبي فحسب وإنما عالمياً أيضاً، ويؤدي إلى تعطل بعض القطاعات الرئيسية في أوروبا، ويُصعب على الحكومات كبح التضخم.
وما يزيد من تعقد المشهد هو التوجه الأوروبي نحو فرض سقف على أسعار الديزل الروسي عند نحو 100 دولار للبرميل. ويأتي سقف الأسعار على الوقود المكرر، بعد أن وافق الاتحاد الأوروبي في أواخر العام الماضي على وضع حد أعلى لسعر صادرات الخام الروسي عند 60 دولاراً للبرميل.
وبلغت العقود المستقبلية الأساسية للديزل، والتي لا تشمل المعروض الروسي، نحو 125 دولاراً للبرميل، نهاية الأسبوع الماضي، وفقاً لبيانات بورصة إنتركونتيننتال أوروبا للعقود المستقبلية.
مكاسب استثنائية لبعض الدول من وراء العقوبات
وبالطريقة نفسها التي يُطبق بها سقف الأسعار على النفط الخام الذي تستورده عدة دول من بينها مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي. فأي جهة تدفع سعراً أعلى من السقف المحدد للمنتجات المشحونة من روسيا، لن تتمكن من الحصول على التأمين والتمويل من دول رئيسية مشاركة في هذا الإجراء.
لكن قد تحقق بعض الدول مكاسب استثنائية من وراء تلك العقوبات عن طريق شراء الديزل الروسي بسقف السعر المحدد، ومن ثم تبيع الوقود الذي تنتجه مصافيها الخاصة للدول الأوروبية بسعر أعلى كثيراً. كما لا توجد قيود جوهرية تمنع المشترين من خارج الاتحاد الأوروبي، مثل الهند، من شراء الخام الروسي ومعالجته في مصافيها الخاصة لإنتاج الوقود، ثم بيع هذه البراميل المكررة بشكل شرعي إلى مشترين في الاتحاد الأوروبي.
أيضاً يمكن للتجار المستعدين لخرق القواعد كلياً شحن الوقود الروسي إلى دولة ما، ثم خلطه مع وقود آخر أو إطلاق اسم مختلف عليه فقط، ومن ثم إرساله في هيئته الجديدة إلى الاتحاد الأوروبي. وسيكون إثبات الأصل الحقيقي لمثل هذه الشحنات صعباً للغاية، وفق بلومبيرغ.
واشترت الهند كميات قياسية من النفط الروسي في ديسمبر الماضي، لتستورد أكثر مما اشترته في نفس الشهر من عام 2021 بنحو 33 مرة، وفقاً لبيانات صادرة عن شركة "فورتيكسا" للتحليلات النفطية، حيث اقتنص ثالث أكبر مستورد للنفط الخام في العالم ما معدله 1.2 مليون برميل يومياً من روسيا، بزيادة أيضا نسبتها 29% عن نوفمبر/ تشرين الثاني. وتُعد روسيا الآن أكبر مصدر للنفط إلى الهند بعد أن تجاوزت العراق والسعودية قبل عدة أشهر.
ويبدو وضع سوق الطاقة في بريطانيا مثالاً صارخاً على التفاف الروس على العقوبات وكذلك اقتناص المستفيدين من الوضع القائم مكاسب كبيرة. فبينما كانت المملكة المتحدة واحدة من أكثر الدول نجاحاً ظاهرياً في حظر الطاقة الروسية، حين اشترت فقط ما يعادل مليوني جنيه إسترليني من النفط بحلول أكتوبر/ تشرين الأول الماضي كما لم تشترِ الفحم أو الغاز من روسيا. لكن تقارير متخصصة أظهرت أن الهند كانت تعرض باباً خلفياً لواردات النفط الروسي إلى بريطانيا، مما أضعف جهود البلاد لتقييد تمويل الكرملين.
واستبدل بعض المشترين البريطانيين الواردات مباشرة من روسيا بواردات من المصافي الهندية. وقبل اندلاع الحرب منذ ما يقرب من عام، كان من النادر جداً أن تعالج المصافي الهندية الخام الروسي، لكنها تشتري المزيد من الخام الروسي حالياً، لأن روسيا تقدم خصومات كبيرة.
مشتريات هندية قياسية من النفط الروسي
ووفق بيانات صادرة عن شركة كيبلر التي ترصد تدفقات النفط، فإن مصفاة جامناجار على الساحل الغربي للهند استوردت 215 شحنة من النفط الخام وزيت الوقود من روسيا في عام 2022، أي 4 أضعاف ما اشترته في العام السابق. في غضون ذلك، استوردت المملكة المتحدة ما مجموعه 10 ملايين برميل من الديزل ومنتجات مكررة أخرى من جامناجار منذ بدء الحرب بما يعادل 2.5 ضعف ما اشترته خلال عام 2021.
وقد تأتي الخطوات الأوروبية لحظر الديزل الروسي وفرض سقف على أسعاره بنتائج عكسية، بينما كان خبراء اقتصاد قد توقعوا في مسح أوردته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية في وقت سابق من يناير/ كانون الثاني الجاري، أن تتجه منطقة اليورو لتجنب الركود الاقتصادي هذا العام، لانخفاض أسعار الطاقة والدعم الحكومي الوفير، إضافة إلى عوامل أخرى منها إعادة فتح الاقتصاد الصيني، الذي يعد ثاني أكبر شريك تجاري لدول الكتلة.
في الأثناء من المتوقع أن يرتفع الطلب على الديزل، بينما نمت أسواقه بشكل متزايد في العامين الماضيين، حيث ارتفع الطلب على نقل البضائع بعد انحسار تداعيات جائحة فيروس كورونا.
في المقابل لا توجد طاقة تكرير كافية في الولايات المتحدة أو أوروبا للاستجابة للطلب المتزايد، وفق تقرير لنشرة أويل برايس الأميركية. ووفق النشرة فإنّ "هناك شيئاً واحداً مؤكداً وهو أنّه لن تكون الولايات المتحدة قادرة على التدخل والمساعدة في أوروبا بالطريقة التي ساعدت بها في توصيل الغاز الطبيعي المسال كبديل لغاز خط الأنابيب الروسي... والسبب يتعلق بوضع الإمداد الخاص بها".
كما أشارت وكالة بلومبيرغ في تقرير لها مؤخراً، إلى أن مخزونات نواتج التقطير (المواد المكررة) أقل من المعتاد في أكبر منتج للنفط في العالم، ولا يزال الطلب قوياً بشكل ملحوظ، بخاصة وسط موجة البرد المستمرة منذ ديسمبر الماضي، والتي تسببت في الإغلاق المؤقت لثلث طاقة التكرير في ساحل خليج المكسيك والإغلاق الأخير لأنبوب وقود في ميناء نيويورك.
لا يوجد ما يكفي من الديزل للراحة في الولايات المتحدة
وتظهر بيانات أنّ شحنات ديزل كانت موجهة من مصدرين دوليين إلى أوروبا يجري تحويلها إلى وجهات جديدة في الولايات المتحدة، لذلك لا يوجد ما يكفي من الديزل للراحة في الولايات المتحدة، كما أنّ هناك كمية أقل من الديزل للراحة في الاتحاد الأوروبي قبيل حظر الديزل الروسي، وفق "أويل برايس".
كما تعد طاقة التكرير الأميركية الآن أقل مما كانت عليه قبل كورونا، حيث تقلصت الطاقة القابلة للتشغيل في عام 2021 للعام الثاني على التوالي لتصل إلى 17.9 مليون برميل يومياً اعتباراً من الأول من يناير/كانون الثاني 2022، وفقًا لتقديرات إدارة معلومات الطاقة.