الذي جرى في الأسواق التركية، منذ ليل الاثنين 20 ديسمبر حتى اليوم، أمر غريب، إن لم نقل إنه جديد، بالتعاطي مع الأزمات النقدية. فهو أكثر من انقلاب بقليل، وأقل ربما بقليل من الاختراع. فأن تحقق الليرة التركية مكاسب، بعد الخسائر، بنحو 40% خلال أيام، من دون أن تتخلى الدولة عن الاقتصاد الحر أو تلجأ إلى الاستثناءات، عبر منع التعامل بالعملات الأجنبية أو المشفّرة داخل البلاد، ومراقبة الحسابات الخاصة بالأفراد والشركات أو الداخلين والخارجين من المطارات، أو تقييد السحوبات وأعمال الصرافين، أو حتى الانصياع لعلم الاقتصاد ورأي المختصين برفع الفائدة، فذاك كما قلنا، غريب وانقلاب يرقى إلى وصفه بالاختراع.
فالأدوات النقدية التي استخدمت معروفة، وإن قلما تلجأ إليها الدول، وكذا بالنسبة إلى طرائق الدعم والتدخل المالية. بيد أن الجديد ربما، هو المزج بين الأداتين، النقدية والمالية في آن واحد، ورميهما بحزمة واحدة مع ضمان تحمّل الدولة كامل الأعباء والخسائر، إذ إن الفروقات، مهما بلغت، قد لا تصل آثارها إلى الانكماش أو هجرة ما بقي من أموال خارجية، وربما مستثمرين ورجال أعمال أتراك.
كذلك فإن خزينة الدولة "جيوب الرعايا" هي الأَولى بتحمّل الخسائر، وإن على حساب الاحتياطي النقدي، من أن يتكبدها المواطن التركي الذي دفع من مستوى معيشته، ثمن فقدان الليرة أكثر من 52% من قيمتها خلال العام الجاري، التي ما كانت لتسعفها نسبة رفع الأجور لو بقيت الليرة تتهاوى وتقتصر تركيا، الدولة والحكومة والساسة، على معالجة الأزمة، بالتصريحات والوعود والوعيد.
لذلك، رمت تركيا، بعد الاجتماع الحكومي الاثنين الماضي، وبعد لقاء محافظ المركزي مديري المصارف وممثلي جمعية البنوك، وبعد التخطيط لوقت التدخل وطريقته خلال اجتماع رئيس الدولة مع صناع السياسة الاقتصادية، (رمت) بأدوات مالية ونقدية، شكلها الظاهر تحقيق "النموذج التركي الجديد" المنطلق من الاستثمار والإنتاج والتوظيف، وإن سعر الفائدة المنخفض سيؤدي، ولو بعد حين، إلى نسبة تضخم منخفضة، ومضمون التدخل موجّه إلى المضاربين والخارج، ومفاده باقتضاب: أجل، ستستمر تركيا باستقلالها الاقتصادي، وما كان سحب الاحتياطي الذهبي من الخارج إلا البداية، وها هي "حربكم" على ما كنتم تحسبونه الخاصرة الرخوة "الليرة" قد تصدينا لها بنجاح... فماذا بجعبتكم للغد، وماذا أنتم فاعلون؟
قصارى القول: بعيداً عن سرد الأسباب، سياسية واقتصادية ونفسية، التي أدت إلى تهاوي سعر العملة التركية، بيد أن الاختراع التركي، أو السابقة بالمواجهة، تجلت باختصار، في أن الدولة الليبرالية أخذت دور "الأبوية"، والحكومة ستعوّض أي خسائر يتكبدها أصحاب الودائع بالليرة، إذا تجاوزت الانخفاضات المستقبلية للعملة معدل الفائدة القياسي للبنك المركزي البالغ 14 في المائة. وإذا كانت أرباح المودعين في المصارف بالليرة أكبر من زيادة سعر الصرف، فإنهم سيحافظون على أرباحهم، أما إذا كانت أرباح سعر الصرف أكبر، فعندئذ سيُدفَع الفرق للمواطن، مع إعفائه من الضرائب، إلى جانب إمكانية فتح حسابات الوديعة بآجال 3 و6 و9 و12 شهراً، وتطبيق الحد الأدنى لمعدل الفائدة المعلن من قبل البنك المركزي التركي.
وإلى جانب ذلك، تم المزج بأدوات مالية، إذ حُدِّد سعر صرف طويل الأجل للشركات المصدرة عبر البنك المركزي مباشرةً، وفي حال حدوث فروقات ستُدفَع بالليرة للشركات، إلى جانب إعفاءات ضريبية، والعدول عن رفع أسعار كانت مقررة، إن حوامل الطاقة أو السلع الاستهلاكية والمواد الأولية.
الأمر الذي أحدث زلزلة بالسوق، فتهافت الأتراك، مضاربين ومكتنزين وحتى أصحاب الحيازات الدولارية الصغيرة، إلى الأسواق وشركات الصرافة لشراء الليرة، لتزيد حالات تبديل العملة على 1.5 مليار دولار بليلة واحدة. فاستفادت الحكومة من هذه الهزّة، وربما رمت بمزيد من الدولار بالسوق، عبر تدخل غير معلن من المصرف المركزي أو من أحد شركائها، إن بالداخل "شركات، مصارف، رجال أعمال" أو الخارج بعد التقارب التركي الخليجي، لتزيد من عامل الثقة الذي استعاده الأتراك بعملتهم. قلنا ربما.
فلنرَ في ما يرى المتابع والحالم اليوم، تراجع سعر الدولار من أكثر من 18 ليرة مقابل الليرة قبل ثلاثة أيام، إلى أقل من نحو 11.5 اليوم، مع ملاحظة تفيد ربما، بما نعتناه بالاختراع، وهي أن سعر الدولار بالسوق اليوم، أدنى من السعر الذي حدده المصرف المركزي، والذي، تحديد السعر اليومي، كان ضمن الحزمة التي أعلنتها تركيا خلال تدخلها بالدفاع عن عملتها.
نهاية القول: ربما السؤال الذي يتوثب على شفاه الأتراك ومن يهمه أمر الليرة التركية هو: هل هذا التعافي بُنيَ على أسس اقتصادية لها طابع المواجهة والديمومة، أم أنّ استعادة الثقة بالليرة مرحلي، نجم عن تدخل حازم ومخاوف كبيرة من المضاربين؟
ربما كانت الإجابة عن تلك الهواجس تنطلق من استمرارية "النموذج التركي" ومدى نية الحكومة لتحمّل هزات الليرة وأثمان التدخلات الخارجية وهواجس المضاربين، بل وابتداع أدوات جديدة تناسب مواجهة خطط متوقعة مقبلة لضرب الليرة. ليبقى الفيصل على ما نحسب في ثلاث قضايا: الأولى استمرار الثقة بالليرة التركية، بعد أن عاد جزء منها إثر شبه تلاشٍ على مدى عام، والثانية ابتعاد المسؤولين الأتراك عن لتدخل المباشر والتصريحات المستمرة بعمل المصرف المركزي وصياغة السياسة النقدية. والثالثة والأهم، انعكاس تحسن سعر الليرة على انخفاض الأسعار وحياة الأتراك والمتعاملين بالليرة، فالأسعار واكبت على مدى عام تهاوي سعر الليرة، فارتفعت بين 50% و150%، وتاريخ الأسواق وجشع التجار يؤكدان أنه قلما تراجع سعر سلعة بعد ارتفاع.