تتدفق الشركات الألمانية إلى الولايات المتحدة الأميركية التي تجذب المستثمرين بحوافز ضريبية وتشغيلية سخية، ما يزيد قلق برلين من تراجع التصنيع، وتدهور مكانتها الإنتاجية عالمياً، بينما ظلت على مدار عقود ماضية معروفة بقلعة "الماكينات" في مختلف المجالات.
وتجتذب أميركا أعداداً كبيرة من الشركات الألمانية، التي تتفاقم الظروف في سوقها المحلية، مع تباطؤ الصين أيضاً التي تعد شريكها التجاري الأكبر.
وأعلنت الشركات الألمانية عن ضخ استثمارات قياسية في المشاريع الأميركية بلغت 15.7 مليار دولار العام الماضي 2023، ارتفاعاً من 8.2 مليارات دولار في 2022، وفقاً للبيانات التي جمعتها شركة "إف دي آي ماكتس"، وهي شركة تابعة لمجلة "فاينانشال تايمز" البريطانية. والاستثمارات الألمانية المتجهة إلى الولايات المتحدة تذهب إلى مشاريع جديدة أو التوسّع في أعمال قائمة.
وتأتي طفرة الاستثمار في العام الأول لإقرار إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قانون خفض التضخم وقانون الرقائق والعلوم، اللذين يقدمان أكثر من 400 مليار دولار من الإعفاءات الضريبية والقروض والإعانات، بهدف إعادة بناء التصنيع في الولايات المتحدة وتسريع تحول الطاقة.
وأعلنت الشركات الألمانية عن 185 مشروعاً في الولايات المتحدة في عام 2023، منها 73 مشروعاً في قطاع التصنيع، وفق تقرير لـ"فاينانشال تايمز" أمس الاثنين. وكان أكبر مشروع هو استثمار بقيمة ملياري دولار من قبل شركة السيارات الكهربائية التابعة لـ"فولكسفاغن" في كولومبيا بولاية ساوث كارولينا.
والاستثمارات المباشرة في القطاعات الإنتاجية تأتي بخلاف بعض أنواع الاستثمارات الأخرى التي تدخل في شراء الأسهم على سبيل المثال، والتي لا يتم تتبعها من قبل أسواق الاستثمار الأجنبي المباشر.
وأشار كبار المسؤولين التنفيذيين في شركتي "باسف" الكيميائية و"سيمنز" للطاقة، وهما من أكبر الشركات في ألمانيا، إلى أن مجموعة من السياسات الصناعية العملية للحكومة الأميركية، والتوقعات القوية للسوق على المدى الطويل، والتركيز المتزايد على سلاسل التوريد، هي ما تدفع الشركات نحو الاستثمار في الولايات المتحدة.
وقال تيم هولت، عضو المجلس التنفيذي لشركة سيمنز للطاقة، التي أعلنت في وقت سابق من فبراير/ شباط الجاري عن خطط لبناء محطة لتحويل الطاقة بقيمة 150 مليون دولار في شارلوت بولاية نورث كارولينا، إن البناء الجديد للبنية التحتية للطاقة الضخمة في الولايات المتحدة يشجع على الاستثمار هناك.
وأضاف أنه "في الماضي، قمنا بتصدير الكثير من المحولات من ألمانيا، ومن النمسا، ومن كرواتيا، ومن المكسيك إلى الولايات المتحدة، ولكن بالنظر إلى حجم السوق، وحاجتنا إلى التوسع، فقد بحثنا وقلنا إن إنشاء مصنع جديد هناك يمثل حالة استثمارية جيدة بالنظر إلى توقعات السوق".
وأشار هولت إلى أن فيروس كورونا والتوترات الجيوسياسية وتعطّل سلسلة التوريد في قناتي السويس وبنما سلطت الضوء على الحاجة إلى تنويع التصنيع.
وهناك دلائل على استمرار ازدهار الاستثمار الألماني في الولايات المتحدة. ووجدت دراسة استقصائية شملت 224 شركة تابعة للشركات الألمانية في الولايات المتحدة، نشرتها غرفة التجارة الأميركية الألمانية في الثامن من فبراير الجاري، أن 96% منها تخطط لتوسيع استثماراتها بحلول عام 2026.
كما تعمل شركة "باسف"، أكبر مجموعة كيميائية في العالم والمستثمر الرئيسي في الصين، على توسيع عملياتها في الولايات المتحدة. وقال مايكل هاينز، الرئيس التنفيذي للشركة في أميركا الشمالية، في تصريح لـ"فاينانشال تايمز" إن حجم السوق، وآفاق النمو على مدى العقد المقبل وبرامج الحوافز الحكومية تجعلها "سوقاً جذابة للغاية".
وتخطط الشركة لاستثمار 3.7 مليارات يورو (3.99 مليارات دولار) بين عامي 2023 و2027 في أميركا الشمالية، بما في ذلك توسعات كبيرة لمصانع البتروكيماويات في ولايتي لويزيانا وأوهايو.
وتُعَد شركة "باسف" مثالاً رئيسياً للمستثمرين والسياسيين القلقين بشأن تراجع التصنيع الزاحف في ألمانيا، بعد أن أعلنت عن تقليص حجم مقرها الرئيسي في مقاطعة لودفيغسهافن غرب ألمانيا، مع خفض الآلاف من الوظائف وإغلاق المصانع، في أعقاب الارتفاع في أسعار الطاقة الأوروبية، عندما غزت روسيا أوكرانيا قبل عامين.
وقد تضرر أكبر اقتصاد في أوروبا بشدة بشكل خاص بسبب فقدان الغاز الروسي الرخيص، والذي سمح له لعقود من الزمن بالبقاء مركزاً للصناعة الثقيلة والتصنيع.
ووجدت دراسة العام الماضي أن ما يقرب من ثلث الشركات الصناعية الألمانية كانت تخطط لتعزيز الإنتاج في الخارج، بدلاً من الداخل، وهو الرقم الذي تضاعف عن العام السابق.
وقال هاينز: "تعاني أوروبا بشكل متزايد من الإفراط في التنظيم، وإجراءات الموافقة البطيئة والبيروقراطية، وقبل كل شيء، ارتفاع تكاليف معظم عوامل الإنتاج". وأضاف: "ليس هناك شك في أن الصناعة الأوروبية تواجه تحديات. الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة في أوروبا من المرجح أن تتقلص بدلاً من أن تنمو على المدى المتوسط".
وشدد على أن ألمانيا والاتحاد الأوروبي ككل بحاجة إلى توليد ما يكفي من الكهرباء الخضراء بأسعار تنافسية، وبناء البنية التحتية المناسبة للكهرباء والهيدروجين، وتطوير إجراءات بيروقراطية أقل، وتسريع إجراءات الموافقة للحفاظ على القدرة التنافسية.
في الأثناء، توقع تقرير صادر عن غرفة الصناعة والتجارة الألمانية، الأسبوع الماضي، أن تحل الولايات المتحدة محل الصين كأكبر شريك تجاري للبلاد بحلول عام 2025 على أبعد تقدير.