أزمة القمح المصري: أسعار متدنية وتكاليف تطحن الفلاحين

28 يناير 2023
موسم حصاد القمح في مصر (خالد الدسوقي/ فرانس برس)
+ الخط -

بدأت أزمة جديدة تطاول موسم زراعة القمح في مصر، بعد احتفاء رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بإعلانه رفع أسعار استلام المحصول الاستراتيجي من القمح إلى سعر قياسي بلغ 1250 جنيهاً (نحو 42 دولارا أميركيا) للإردب من 885 جنيهاً أي بنسبة تصل إلى 70 في المائة عن أسعار العام الماضي، مع تسهيلات في منح المزارعين أسمدة مدعمة في حدود 4500 جنيه للطن.

إلا أن الفلاحين غاضبون، رغم الزيادة الكبيرة التي قررتها الحكومة. إذ تريد الأخيرة أن يسلم المزارعون نصف ما يحصدون، بواقع 12 إردبا (الإردب يساوي 150 كيلوغراما) من القمح عن كل فدان، بداية من شهر مايو/ أيار المقبل، لتضمن استلام 4 ملايين طن من القمح المحلي، بعد أن نجحت الموسم الماضي في فرض التوريد القسري لتحصيل 4.2 ملايين طن.

ويتملص المزارعون من قيود الحكومة، ويسعون إلى رفع سعر التوريد إلى 2000 جنيه للإردب ليواكب الأسعار العالمية التي طالما اتخذتها الحكومة مقياسا لمحاسبة الراغبين في تسليم القمح المحلي للدولة حين كانت الأسعار الدولية متدنية، حتى اندلعت الحرب الروسية في أوكرانيا، وتعطل استيراد 80 في المائة من حاجة البلاد من القمح المستورد.

وقعت مصر ضحية ارتفاع الغذاء وتدهور قيمة الجنيه، مع التغير في سعر صرف الدولار، وضغط الحاجة إلى 20 مليون طن من القمح لسد حاجة المواطنين إلى 100 مليار رغيف خبز مدعوم، يستهلكه نحو 62 مليون شخص.

يستهلك المواطن ما بين 150 إلى 180 كيلوغرماً من الخبز المصنوع من القمح سنويا، وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة "الفاو"، بزيادة عن المعدل العالمي، الذي يتراوح ما بين 70 إلى 80 كيلوغراماً، باعتباره وجبة مشبعة موفرة للطاقة مع عدم قدرة المواطن على تناول اللحوم والدواجن والأسماك وفقا للمعدلات الدولية، بسبب ارتفاع الأسعار.

ارتفاع التكاليف

في دولة ذات إنتاجية محدودة لا تتعدى 24 إردبا للفدان، ويصعب التوسع في الرقعة الزراعية لندرة المياه، أصبح ارتفاع الطلب من الدولة والمستهلكين لا يعني زيادة العرض، بينما ارتفاع سعر القمح المورد للدولة محلياً يواكبه زيادة أكبر في التكاليف.

إذ فقد الجنيه نحو77 في المائة من قيمته خلال عام، وارتفعت معدلات التضخم السنوي للمستهلكين، حتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بمعدل 21.9 في المائة، متأثرة بزيادة جميع السلع الغذائية الأساسية وخاصة الخبز والقمح والحبوب، التي بلغت 58.3 في المائة وفقا لجهاز التعبئة والإحصاء.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وينتج المزارعون نحو 9 ملايين طن من مساحة 3.5 ملايين فدان، وتستورد الحكومة نحو 11 مليون طن من الخارج، وفقا لبيانات وزارة الزراعة الأميركية وهيئة السلع التموينية. وزادت تكاليف الزراعة والمعيشة بمعدلات مخيفة، يؤكد ستيف هانك أستاذ الاقتصاد في جامعة جون هوبكنز الأميركية في آخر مقالاته، أن التضخم الحقيقي في مصر وصل إلى 88 في المائة عام 2022.

بحسابات خبير التضخم، وبرؤية الفلاح البسيط، هناك واقع يؤكد أن الأسعار ارتفعت إلى معدلات غير مسبوقة، مع تراجع قيمة الجنيه، وندرة السلع بالأسواق، تصل إلى ضعف الأسعار السائدة حتى يناير/ كانون الثاني 2022. يعتبر حسين عبد الرحمن أبو صدام نقيب الفلاحين، أن السعر الذي عرضته الحكومة على المزارعين، أقل بكثير من القيمة السوقية، مشيرا في حديثه لـ " العربي الجديد" إلى أن بيع الفلاح لإردب القمح بالسعر الحر، يمكن أن يصل إلى 1900 أو 2000 جنيه، خلال أبريل/ نيسان المقبل.

يشدد أبو صدام على أن السعر المطروح من الحكومة، يعتبر استرشادياً، حيث ينتظر الناس نتاج المحصول وزيادة الأسعار المتوقعة في ضوء تنبؤات بارتفاع أسعار الوقود والنقل والعمالة، وأيضا تطورات الحرب في أوكرانيا والأسعار العالمية.

توقف تمويل الزراعة

يبين أبو صدام أهمية أن يكون السعر المعروض من الحكومة مرتفعا، منوها إلى حرص المزارعين على زيادة المساحة المخصصة للقمح هذا العام بنحو 250 ألف فدان، حيث زرعوا 3 ملايين و650 ألف فدان الموسم الحالي. ويتوقع نقيب الفلاحين أن يرفع ذلك الإنتاج الوطني إلى 11 مليون طن، وبما يحقق للفلاح زيادة في العائد نحو 500 جنيه في الإردب تصل إلى 10 آلاف جنيه في الفدان، وفقا للأسعار المعلنة من الحكومة حاليا.

يقول أبو صدام إن الفلاح المصري ببساطته لا يتشدد في طلب رفع الأسعار، لأنه يعلم أن زيادة سعر تسليم القمح سترتد عليه في زيادة سعر الخبز والأعلاف وجميع المنتجات التي يدخل القمح في صناعتها. الفلاح يبحث عن الاستقرار في تكاليف مدخلات الإنتاج، وعدم رفع الحكومة أسعار الأسمدة والمبيدات والسيطرة على الأسواق التي انفلتت بها الأسعار. ويتمنى أبو صدام أن تسترد الحكومة قوتها في إدارة الزراعة، وإعادة هيكلة التركيبة الزراعية بما يحدد أولويات المحاصيل المهمة للدولة، ويحافظ على توفيرها.

تأتي أمنيات نقيب الفلاحين عبثا، بعد أن أبلغت الحكومة بعثة صندوق النقد بالقاهرة أخيراً، موافقتها على كافة طلبات الصندوق المتفق عليها عند توقيع عقد الحصول على قرض قدره 3 مليارات دولار، الشهر الماضي، من بينها توقف الحكومة عن الدعم النقدي لتمويل المشروعات الزراعية والتخارج من سلسلة الإنتاج التي كانت تتولى ادارتها بالتعاون مع القطاع الخاص، وذلك ضمن " وثيقة ملكية الدولة" التي تحظر على الحكومة الاستثمار في عشرات القطاعات الإنتاجية وبيع الموروث منها.

توقع أزمة غذاء

دفعت السياسات النقدية المتشددة للحكومة إلى تراجع الجنيه، ما ساهم في أزمة عملة وأصبح الدولار يوازي 30 جنيها. تعمل الحكومة على التخلص من دعم الخبز أو تقليصه إلى أدنى حد ممكن لخفض فاتورة دعم القمح التي تصل إلى 93 مليار جنيه، بارتفاع من 55 مليار جنيه قبل الحرب الروسية الأوكرانية. يتوقع صندوق النقد والبنك الدوليان انخفاضا للنمو في مصر إلى 4 في المائة، ويخشيان مواجهة الدولة أزمة غذاء طاحنة، تدفع إلى اضطرابات سياسية واجتماعية، تنفجر في الدول المحيطة وتنتشر إلى جنوب أوروبا.

وفقا للبنك الدولي، يعيش ثلث المصريين تحت خط الفقر وثلت آخر معرضون للفقر، وإن أزمة الغذاء ستكون الأكثر تأثرا بالتضخم في مصر خلال الفترة المقبلة. فيما يتوقع محللون اقتصاديون ارتفاع معدلات التضخم إلى 30 في المائة العام الجاري، متأثرة بمزيد من التراجع في الجنيه، وزيادة الفائدة، وأسعار السلع الأساسية.

في المقابل، يخشى مزارعو القمح أن يقعوا في مصيدة الحكومة مرة أخرى، عندما أجبرتهم على توريد القمح، دون أن تتحمل أية أعباء، بينما هم يدفعون تكاليف الإنتاج وفقا للأسعار العالمية، التي تطبق عليهم قسرا في الأسواق والسلع والخدمات التي تتحكم الحكومة بها.

المساهمون