أزمة الدين الأميركي... الوقت ينفد أمام تجنّب كارثة مالية

22 مايو 2023
بايدن يرفض شروط الجمهوريين للموافقة على رفع سقف الدين (Getty)
+ الخط -

تخفت نبرة الثقة التي طالما أبداها مسؤولون ومؤسسات مالية كبرى في الولايات المتحدة مؤخراً، حيال إمكانية توصل الكونغرس إلى تسوية بشأن رفع سقف الدين الأميركي، ما يجنب واشنطن والعالم كارثة مالية حقيقية، حيث وصلت المحادثات بين إدارة الرئيس جو بايدن والجمهوريين إلى طريق مسدود، وسط تبادل الاتهامات بينهما بالتسبب في حالة الجمود المربكة للجميع.

ولم يتبق سوى نحو تسعة أيام على الموعد الأول من يونيو/ حزيران، الذي حذرت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، مراراً من أن الحكومة الاتحادية قد تكون غير قادرة بحلوله على سداد جميع ديونها، مشيرة إلى أنه ستكون هناك عواقب وخيمة إذا نفد النقد من الدولة لدفع فواتيرها، ما سيجعلها غير قادرة على دفع رواتب الموظفين الفيدراليين، ويؤدي إلى ارتفاع محتمل في أسعار الفائدة، مع آثار غير مباشرة على الشركات والرهون العقارية والأسواق العالمية.

وتفاقم الدين السيادي الذي بات واحداً من نقاط الخلاف المتكررة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري إلى مستويات مرعبة، حيث تجاوز 31.4 تريليون دولار في 19 يناير/كانون الثاني الماضي.

ولا تلوح في الأفق حتى الآن أي بوادر لإنهاء الأزمة بين البيت الأبيض والجمهوريين. إذ قال الرئيس جو بايدن، أمس الأحد، إنه لن يوافق على اتفاق مع الجمهوريين في الكونغرس بشأن رفع سقف الدين الاتحادي وخفض الميزانية، وفقاً لشروطهم فقط.

وفي كلمة خلال مؤتمر صحافي في هيروشيما باليابان، على هامش مشاركته في قمة مجموعة السبع، قال بايدن إنه سيتحدث مع رئيس مجلس النواب الجمهوري كيفن مكارثي خلال رحلة العودة إلى بلاده بشأن المفاوضات، لكنه أكد أن تخلف الولايات المتحدة عن السداد ليس خياراً مطروحاً. وأضاف "حان الوقت ليقبل الجمهوريون أنه لن يكون هناك اتفاق بين الحزبين بناء فقط على شروطهم".

ويشترط الجمهوريون أن يوافق بايدن على خفض كبير في نفقات الميزانية مقابل موافقتهم على رفع سقف الدين، متجاهلين مطالب الديمقراطيين المتكرر بزيادة "نظيفة" في سقف الاقتراض العام. واتهم الديمقراطيون الجمهوريين باستخدام تكتيكات مبالغ فيها لدفع أجندتهم السياسية قبل الموعد الذي ستبدأ فيه الولايات المتحدة بالتخلف عن سداد ديونها بسبب نفاد أموال الحكومة.

ويشغل الجمهوريون أغلبية ضئيلة من المقاعد في مجلس النواب، بينما يتمتع الديمقراطيون الذين ينتمي إليهم بايدن بسيطرة محدودة على مجلس الشيوخ، لذلك لا يمكن إقرار أي اتفاق دون دعم من الحزبين.

وكان مجلس النواب الذي يرأسه الجمهوري، كيفن مكارثي، قد أقر في إبريل/ نيسان الماضي تشريعاً من شأنه أن يخفض جزءاً كبيراً من الإنفاق الحكومي بنسبة 8% العام المقبل. ويقول الديمقراطيون إن ذلك سيفرض تخفيضات بنسبة 22% على الأقل في المتوسط في برامج مثل التعليم، وإنفاذ القانون، وهو رقم لم يشكك فيه كبار الجمهوريين.

صدمات تضرب اقتصادات العالم

ورغم أن رفع سقف الدين إجراء روتيني سنوياً، غير أنه أضحى مثار جدل كبيراً هذا العام. حيث يأتي في خضم صراع انتخابي داخلي وصعوبات اقتصادية كبيرة تدفع الولايات المتحدة نحو ركود مخيف، فضلاً عن سباق يجري على الأرض من قبل اقتصادات كبرى من شأنه تقويض الهيمنة الأميركية وخشية حلفاء واشنطن من صدمات ارتدادية تضرب اقتصاداتهم.

وكتب المتحدث باسم البيت الأبيض آندرو بايتس في "تغريدة" على "تويتر": "نحن لا نقدم أي مطالب من أجل تجنب التخلف عن السداد"، متهماً الجمهوريين بالسعي لإحداث ركود في الاقتصاد الأميركي.

وسقف الدين هو الحد الأقصى للمبلغ الذي يمكن للحكومة الأميركية اقتراضه للوفاء بالتزاماتها المالية. وعند وصول الديون لهذا الحد، لا يمكن لوزارة الخزانة إصدار ديون إضافية للوفاء بالتزاماتها المالية دون موافقة الكونغرس على رفع سقف الدين أو تعليقه. ووفقاً لبيانات وزارة الخزانة، رفع الكونغرس سقف الدين 78 مرة منذ عام 1960، منها 49 في ظل رؤساء جمهوريين، و29 تحت رئاسة ديمقراطية.

وينفد الوقت أمام إمكانية تجنب الولايات المتحدة سيناريو التخلف عن سداد ديونها، وحتى في حال التوصل إلى اتفاق بين البيت الأبيض والجمهوريين، فإن أي اتفاق بشأن سقف الدين سيستغرق عدة أيام لتمريره من مجلسي النواب والشيوخ وتوقيعه من قبل الرئيس، بينما الاقتراب من الموعد النهائي قد يخيف المستثمرين ويؤدي إلى اضطرابات اقتصادية، وفق صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، أمس الأحد.

ورغم التشاؤم، لا يزال من المتوقع أن يتوصل بايدن والجمهوريون في الكونغرس إلى اتفاق في نهاية المطاف، بحسب الصحيفة، وذلك نظراً للتداعيات الاقتصادية والسياسية الخطيرة للتخلف عن سداد الدين. لكن تصريحات بايدن الأخيرة جاءت مغايرة كثيراً لنبرة التفاؤل التي أبداها، يوم السبت الماضي، حينما قال إنه لا يزال يعتقد أنه يمكن تجنب التخلف عن السداد، وإنجاز "شيء لائق"، مضيفاً أن المحادثات تمضي عبر "مراحل".

وانعكست أجواء التوتر الأميركية على قمة مجموعة السبع، رغم أن بايدن حرص على أن يبعث رسائل طمأنة إلى العالم بشأن الأزمة المالية لبلاده. فقد أمضى القمة بأكملها وهو حذر. فهو من ناحية يريد أن يُعرف العالم أجمع أن كل شيء سيكون على ما يرام. ومن ناحية أخرى، يبدو عليه أنه قلق للغاية، إذ دفعت الأزمة إلى إلغائه نصف رحلته الآسيوية المقررة، حيث تقرر عودته إلى واشنطن في وقت متأخر من مساء الأحد.

ويعد اجتماع مجموعة السبع في اليابان مرحلة مهمة لهدف بايدن المتمثل في إعادة تثبيت قيادة الولايات المتحدة للأنظمة الديمقراطية في العالم، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمواجهة روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا. كذلك كانت الزيارتان المقررتان أصلاً إلى كل من بابوا غينيا الجديدة وأستراليا تهدفان إلى التأكيد على الهدف الآخر للرحلة، وهو تشكيل جبهة موحدة ضد صعود الصين الشيوعية.

صراع انتخابي بين بايدن وترامب

لذا فإن آخر ما يريده البيت الأبيض هو عناوين مثل ما نشرته صحيفة "واشنطن بوست" مؤخراً، "العالم يشاهد في حال من الصدمة والهلع اقتراب الولايات المتحدة من التخلف عن السداد". ولا يقتصر الأمر على الشلل الذي قد يصيب واشنطن ويثير مخاوف شركاء الولايات المتحدة، فهناك عام 2024 ومحاولة بايدن لإعادة انتخابه.

ومنافسه الرئيسي في الوقت الحالي ليس سوى الرئيس السابق دونالد ترامب الذي لا يبدو أنه يكترث لمخاطر التخلف عن سداد ديون الولايات المتحدة. وكتب ترامب للجمهوريين على مواقع التواصل الاجتماعي الجمعة: "لا تتراجعوا!!!". وأضاف: "على الجمهوريين ألا يبرموا صفقة بشأن سقف الديون ما لم يحصلوا على كل ما يريدون".

ويأتي اعتراض الجمهوريين على رفع سقف الدين هذا العام، بينما وافقوا على ذلك ثلاث مرات، مع عدم وجود شروط مسبقة لخفض الميزانية، عندما كان ترامب في البيت الأبيض.

وفي لقاء ثنائي مع رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي، السبت، قال بايدن وفق ما نقلت وكالة فرانس برس: "أعتذر لك عن الاضطرار للاجتماع هنا بدلاً من المجيء إلى أستراليا". وأضاف بايدن: "لدينا مشكلة صغيرة في الولايات المتحدة". وأبدى ألبانيزي تفهماً، وقال له: "كنت سأفعل الشيء نفسه. القضايا السياسية المحلية هي الأهم في الواقع".

في الأثناء يشير المفاوضون من الجانبين إلى أنهم غير واثقين من الموعد الذي يمكن أن تعقد فيه جولة جديدة من المحادثات بين الجانبين، بعد انتهاء اجتماعين يوم الجمعة الماضي، دون الإعلان عن إحراز أي تقدم، وعدم الاجتماع يوم السبت.

ومساء السبت، قال رئيس مجلس النواب الجمهوري كيفن مكارثي للصحافيين في الكونغرس إنه لا يعتقد أن المحادثات يمكن أن تمضي قدماً قبل عودة بايدن إلى البلاد من اجتماع مجموعة السبع. وقال مكارثي: "للأسف، اتخذ البيت الأبيض خطوات إلى الوراء" مضيفاً أنّ "الجناح الاشتراكي" للحزب الديمقراطي هو الذي يمسك بزمام الأمور على ما يبدو.

بينما اتهمت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير في بيان مساء السبت، الجمهوريين بتقديم مقترحات لا يمكن إقرارها في الكونغرس. وقالت: "لنكن جادين بشأن ما يمكن أن يقره الحزبان، ويصل إلى مكتب الرئيس ويقلل العجز"، مضيفة أن فريق بايدن مستعد للاجتماع في أي وقت.

ويضغط الجمهوريون من أجل إجراء تخفيضات حادة في الإنفاق في العديد من البرامج المحلية مقابل زيادة حد الاقتراض الذي تفرضه الحكومة على نفسها، وهو أمر مطلوب بانتظام لتغطية تكاليف الإنفاق والتخفيضات الضريبية التي وافق عليها المشرعون سابقاً.

وبحسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست، السبت، رفض المفاوضون الجمهوريون عرضاً من البيت الأبيض للحد من الإنفاق، العام المقبل، على كل من الجيش ومجموعة واسعة من البرامج المحلية.

وأشارت الصحيفة إلى أنّ مساعدي بايدن، قدموا ما اعتبروه تنازلاً رئيسياً، من خلال اقتراح أن يبقي الكونغرس إلى حد كبير الإنفاق ثابتاً على مجموعة واسعة من البرامج المحلية، بما في ذلك التعليم والبحث العلمي ومساعدات الإسكان.

كما اقترح مفاوضو الرئيس بشكل أساسي، إبقاء الإنفاق العسكري ثابتاً للعام المقبل؛ إلا أن الجمهوريين يريدون زيادة الإنفاق العسكري، وزيادة الإنفاق على المحاربين القدامى، وخفض الإنفاق المحلي.

ملايين الوظائف مهددة

وقبل أيام، حذر بايدن من مخاطر عدم موافقة الحزب الجمهوري على رفع سقف الدين بقوله إن الاقتصاد الأميركي قد يدخل في حالة من الركود ويلغي ملايين الوظائف. وفي خطاب على غرار الحملة الانتخابية في ولاية نيويورك، الأربعاء الماضي، اتهم بايدن الجمهوريين باختطاف "الاقتصاد رهينة"، من خلال المطالبة بتخفيضات كبيرة في الإنفاق مقابل رفع سقف الدين.

ووفق تحليل لمركز غرينبيرغ للدراسات الاقتصادية الأميركي، فإن تخلف أميركا عن سداد الدين من شأنه أن يقود إلى حدوث اضطراب كبير في أسواق المال العالمية والأميركية، ويضعف مركز الدولار في الاحتياطيات الدولية، ويقوض مركزه باعتباره "عملة ملاذ" آمن في الأزمات المالية والسياسية، كما سيقوض مصداقية سوق سندات الخزانة الأميركية الذي تعتمد عليه الولايات المتحدة في تمويل الإنفاق المستقبلي.

ويقدر إجمالي سوق سندات الخزانة الأميركية بنحو 24.3 تريليون دولار حتى نهاية إبريل/ نيسان الماضي، وفقاً لبيانات اتحاد الأسواق والأوراق المالية. كما ستتعرض أسواق المال، وعلى رأسها "وول ستريت" التي يفوق حجمها 50 تريليون دولار، لهزة كبرى. وبالتالي فإن حجر الأساس للنظام المالي للولايات المتحدة سيكون في خطر.

وفي السنوات الأخيرة شهدت الولايات المتحدة بصفة متكررة أزمات بشأن سقف الدين. لكن أزمة الديون تزداد تعمقاً هذه المرة، في ظل ضخامة الاستحقاقات للدائنين، إذ تسببت إجراءات التحفيز النقدي خلال جائحة كورونا في ارتفاع مستويات الإنفاق الحكومي، والعجز المالي، وهو ما ساهم في ارتفاع مستوى الدين بنسبة 36% خلال الفترة من 2019 حتى 2022. واستمر الدين في الارتفاع ليصل إلى السقف الأخير في مطلع العام الجاري.

وفي حال فشل التوصل إلى تسوية مع الجمهوريين بشأن رفع سقف الدين، لم يستبعد البيت الأبيض اللجوء إلى صلاحية دستورية تتيح له تجاوز الكونغرس، ويجيز بشكل أحادي رفع سقف الاقتراض، على الرغم من أن خطوة كهذه يرجح وفق محللين أن تثير جدلاً ويجري الطعن بها أمام القضاء.

وفي حوار مع قناة "أم أس أن بي سي" في وقت سابق من مايو/أيار الجاري، اعتبر بايدن أن الأمور "لم تصل إلى هذا الحد بعد"، لكنه عاد ليعلن أمس، من هيروشيما، أنه "يعتقد أنه يملك سلطة تفعيل التعديل الرابع عشر للدستور الأميركي من أجل رفع سقف الدين من دون الكونغرس". لكنّه أضاف أنّه لا يزال يعتقد أنه يمكنه التوصل إلى اتفاق مع الجمهوريين، لكنه لا يستطيع ضمان ألا يقوموا "بتصرف صارخ" يؤدي إلى حدوث تخلف عن السداد.

المساهمون