قالت وكالة بلومبيرغ يوم الإثنين إن الجنيه المصري فقد في السوق السوداء 6% من قيمته خلال الأسبوع الماضي، مرجعة ذلك إلى توقع الكثيرين قرب حدوث تخفيض جديد للعملة المصرية، وسط تصاعد للضغوط، وتعطّل أغلب الخطط التي عوّلت عليها الحكومة لحل الأزمة.
وأشارت الوكالة الأميركية، التي تخصصت في الأسابيع الأخيرة، على ما يبدو، في نشر التقارير التي تنقل الحالة السلبية للجنيه المصري، وتردي أحوال المعيشة للملايين من المصريين، بعد فقدان الجنيه نحو 50% من قيمته، كما الصعوبات المتعلقة بارتفاع الدين الخارجي ومتطلبات السداد للأقساط والفائدة، وتباطؤ النشاط الاقتصادي، إلّا أن البعض اشترى الدولار من السوق غير الرسمية، بسعر 33.5 جنيهاً، مقارنة بسعر يدور حول 30.73 جنيهاً في الجهاز المصرفي الرسمي، رغبة منهم في تخزين العملة المصرية، قبل حدوث التخفيض المحتمل.
لكن الحقيقة أن وكالة بلومبيرغ لم تتجنّ على الجنيه المصري، ولم تبالغ في تصوير الأوضاع الاقتصادية المتدنّية للمصريين، حيث سبقها العديد من البنوك العالمية ومراكز الأبحاث الدولية والعديد من المجلات الاقتصادية المتخصصة، وكان أشهرها بنكا سوسيتيه جنرال وكريدي سويس، ومجلة "ذي إيكونوميست"، ووكالة رويترز.
هذه المصادر تحدثت عن توقع على نطاق واسع بمزيد من الانخفاض للعملة المصرية، وصعوبة تجاوز الأزمة الحالية، وأوضحت توجه الحكومة نحو بيع حصتها في العديد من الشركات الرابحة، وما تواجهه من صعوبات في البيع، سواء بسبب عدم القدرة على الاتفاق مع الأطراف المرشحة للشراء على قيمة واقعية للأصول المعروضة للبيع، أو بسبب تعزز الجانب الخليجي، ورغبته في فرض شروطه، ومنها، على ما يبدو، اختيار أصول لا تفضّل مصر بيعها في الوقت الحالي.
ولم تأت التوقعات المتشائمة من الخارج فقط، إذ عكست العقود الآجلة غير القابلة للتسليم، مما يطلق عليه اسم NDF، سعراً للدولار مقابل العملة المصرية، لا يقل عن 37.50 جنيهاً، تسوية عام من الآن.
هذه الأداة لم تكن موجودة في مصر قبل الربع الأخير من العام الحالي، حين قرّر حسن عبد الله، المحافظ الجديد وقتها للبنك المركزي المصري، السماح للبنوك المصرية بتقديمها لعملائها، وكان المبرر وقتها هو محاولة "استنباط" القيمة الحقيقية للعملة المصرية، وسط فوضى اجتاحت الأسواق وقتها، وتسببت في ازدهار السوق السوداء.
ما سبق يؤكد، بدرجة كبيرة من الثقة، أن الأمر ليس "تربص بعض المؤسسات" ذات المصلحة بـ"الاقتصاد المصري القوي"، أو جزءاً من "المؤامرة الكونية" على مصر، وإنما هو ترجمة لمجموعة من الوقائع، تشير بوضوح إلى أن رحلة انزلاق العملة المصرية أمام العملات الأجنبية لم تنته بعد.
ولو دخلنا في التفاصيل، يمكن ملاحظة العديد من النقاط التي تُثير القلق فيما يخص مستقبل العملة المصرية، من أول تزايد عجز صافي أصول القطاع المصرفي بالعملة الأجنبية، بما قدرته رويترز بنحو 1.7 مليار دولار، بينما القيمة الحقيقية للتراجع تتجاوز 5 مليارات دولار، كما أشار العديد من المواقع، العربية والأجنبية، وعودة البضائع للتراكم من جديد في الموانئ، بسبب عدم توفر العملة الأجنبية اللازمة لدفع قيمتها، وكذلك تعثر قدوم الأموال الساخنة، رغم ارتفاع الدولار أمام الجنيه بنحو 100%.
كل هذه الأمور دفعت الأجانب، ومن قبلهم المصريين، لفقدان الثقة بالعملة المصرية، وانتظار التخفيض تلو الآخر، وتباطؤ كل من يريد تحويل ما لديه من دولارات، إذ ربما يأتي الغد أو الأسبوع المقبل بسعر أفضل من المتاح اليوم.
لكن المشكلة الكبرى أن التطورات لم تتوقف عند هذا الحد، إذ تسببت حالة عدم الثقة، مع توالي تراجع قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية، في خروج كميات ضخمة من أموال المصريين إلى الخارج، بطرق شتى.
وتحدث البعض عن استخدام سهم البنك التجاري الدولي، الذي يتم التعامل عليه في بورصة لندن، كما عمليات مقاصة تتم في دبي ومدن عربية أخرى، من خلال شركات صرافة وسماسرة، يحصلون على العملة الأجنبية خارج البلاد، ويوفرون العملة المصرية المقابلة لها داخل البنوك المصرية، بينما يبيعون العملة الأجنبية خارج البلاد للطرف المصري الراغب في إخراج أمواله من مصر.
بعض العالمين بالقصة أكدوا أن هذا النوع من العمليات بدأ منذ فترة، وقبل احتدام الأزمة في الربع الأول من عام 2022، حيث تم نقل ما وصلت قيمته إلى مليارات الدولارات من أموال المصريين خارج البلاد، وهو ما يبدو أنه فاقم من الأزمة الحالية، وجعلنا لا نشعر بالاقتراب من الخروج منها، رغم المساعدات التي حصلنا عليها خلال العام الماضي (أرقام البنك المركزي المصري تقول إننا حصلنا على ودائع قيمتها 13 مليار دولار من السعودية والإمارات وقطر في عام 2022 فقط).
وساهم في تكثيف حالة عدم الثقة بالعملة المصرية، بالإضافة إلى كل ما سبق، ضعف الحلول المقدمة حتى الآن، والتي انصبت في علاج أعراض المرض، من تراكم بضائع في الموانئ، وعدم وجود موارد لسداد أقساط وفوائد الديون، وعدم توفر بعض السلع في الأسواق، فكانت الحلول مقصورة على البحث عن مصادر أخرى يمكنها إقراضنا، أو بيع الأصول المملوكة للدولة، أو تدخل الجهات السيادية لتوفير السلع الغائبة.
لكن أحداً لم يخبرنا عن طريقة للتعامل مع أصل الداء وسببه، وهو الارتفاع المتزايد في الحساب الجاري للبلاد، والذي تسبب في تفجر الأزمة مطلع العام الماضي، واستمرارها حتى الآن، ببساطة لعدم توقف النزيف!
وتشير الأرقام الصادرة من البنك المركزي المصري إلى أن الربع الثالث من العام الماضي، وهو آخر ربع تم إعلان بيانات التجارة الخاصة به، شهد استمرار العجز عند المتوسط المعتاد لدينا، نحو 10 مليارات دولار في الربع، أو نحو 40 مليار دولار في العام، رغم القيود الكبيرة التي فُرضت على الواردات المصرية في ذلك الوقت.
فهل يتصور أحد إمكانية لشفاء مريض السرطان، بينما هو لا يتوقف عن تدخين السجائر، الواحدة تلو الأخرى؟