يصرّح الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية أمين حسين الناصر، يوم 15 أغسطس/ آب الجاري، بأنّ شركته جاهزة لرفع إنتاجها من النفط الخام إلى 12 مليون برميل يومياً، متى ما طُلب منها ذلك، ويتوقع في تصريحات له تناقلتها وكالات الأنباء والمواقع المهتمة بالشأن النفطي أنّ الطلب على النفط سيرتفع عالمياً من مائة مليون برميل يومياً إلى أكثر من 102 مليون برميل عام 2023.
وفي المقابل، يؤكد الناصر أنّ الفجوة بين الطلب والعرض لا تعود إلى زيادة الطلب، خصوصاً في آسيا، فحسب، بل بسبب أنّ الاستثمار في التنقيب عن مصادر جديدة للنفط الخام بدأ يتراجع، وهذا يؤدّي إلى إعسار في الكميات المعروضة. وهو يرى أن شركة أرامكو تستطيع زيادة إنتاجها بسهولة ومن دون الضغط على إمكاناتها، لأنّها طوّرت قدرتها على ذلك، وهي جاهزةٌ لذلك الاحتمال.
وفي المقابل، يعيد البنك الدولي النظر في توقعات النمو الاقتصادي العالمي العام المقبل من 3.8% إلى حوالي 3.2%، ويؤكد أنّ الصين ستشهد تراجعاً في معدّلات النمو لديها، علماً أنّ المسؤولين الصينيين لا يشاركون هذا التوقع، بل يؤكّدون أنّ معدلات النمو عندهم ستشهد زيادة العام المقبل.
وفي الوقت الذي تبذل فيه دول كثيرة جهوداً مستمرة للحدّ من الارتفاع في الأسعار وتكاليف المعيشة عن طريق زيادة أسعار الفوائد للحدّ من الاقتراض والتوسّع النقدي، وبهدف تقليل الطلب عن طريق جعل الإنفاق أكثر كلفة، فإنّ الارتفاعات التي حصلت بدأت تغري النقابات العمالية بالإضراب، أو بالتهديد بالإضراب طلباً لزيادة الأجور بسبب الارتفاع الحادّ في الأسعار.
وهذا حاصل في بعض القطاعات على وجه التحديد. وقد أعلن عمال الموانئ والموظفون في المملكة المتحدة الإضراب في أكبر ميناء للحاويات هناك. وكذلك هدّدت أجهزة التمريض في بعض الدول بالإضراب في ظل زيادة الأعباء المعيشية والنقص الواضح في الكوادر التمريضية. وهناك أمثلة كثيرة لا حصر لها على عودة النقابات العمالية إلى الاستقواء بطلب رفع الأجور في ظلّ التضخّم.
إذاً، ستشهد اقتصادات كثيرة تطورين متناقضين. الأول يجري في سوق النقد، حيث ترفع البنوك المركزية أسعار الفوائد. وهذا يؤدي إلى الإقبال على الادّخار والحد من الاقتراض. لكنّه في حد ذاته ينطوي على تكاليف إضافية على كاهل المنتجين والمستهلكين. وستكون في صالح التقليل من الإنفاق وتأجيل قراراتٍ كثيرة في هذا المجال. وفي المقابل، سوف يفاقم الضغط لزيادة الأجور حدّة التضخم عن طريق رفع كلف المنتجين والتجار، ما يؤدي إلى رفع الأسعار.
شهدنا خلال الأسبوع الماضي تطورين لافتين في هذا الإطار؛ الأول استقالة محافظ البنك المركزي المصري طارق عامر بسبب خلافات مع القطاع الخاص بشأن فتح اعتمادات مستندية جديدة للاستيراد، وبسبب تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض جديدة، أدت، كما يقول المحللون، إلى هبوط سعر صرف الجنيه المصري. لكنّ الأسباب التي لا تُبحث كثيراً تعود إلى ارتفاع مديونية مصر بسرعة إلى ما يقارب 400 مليار دولار مقابل موجودات من العملات الاحتياطية الرسمية لا تزيد حالياً عن 33 مليار دولار. ولو أضفنا إلى هذا كله أن قيمة الأقساط والفوائد المستحقة على ديون مصر، بما فيها المتأخرات (arrears) من السنوات السابقة ستتجاوز 30 مليار دولار.
والتطور الثاني تخفيض البنك المركزي التركي سعر الفائدة الأساس إلى حوالي 13% مقابل نسبة تضخم بلغت على أساس سنوي في شهر مايو/ أيار الماضي 73.5% مقابل 70% فقط في شهر إبريل/ نيسان الذي قبله.
ويعود السبب إلى ما يسمّيه الناقدون للسياسة التركية إلى منهجية رخوة ومنفلتة في إدارة السيولة في تركيا. وبمعنى آخر، ترى القيادة التركية أنّ إبقاء اليسر النقدي وعدم تأزيمه برفع أسعار الفوائد هو الخيار الأفضل لتركيا لتحافظ على معدّلات نمو مرتفعة، على الرغم من ارتفاع الأسعار إلى مستوياتٍ خطيرة، وتنطوي على آثار اجتماعية صعبة.
والمعضلة التركية بين خيار مكافحة التضخم أو الحفاظ على معدلات النمو والتشغيل بمثابة مصيدة، وهو ما تواجهه دول كثيرة بدأت تشهد تظاهرات وأزمات حادّة مثل باكستان وسريلانكا والمكسيك والأرجنتين، ودول غنية مثل إسبانيا وإيطاليا.
ولم تعد هذه الأزمات مقتصرة على لبنان واليونان والجزائر، وهناك دول ترزح تحت الثقل نفسه، لكنّها بحاجة إلى بعض الوقت قبل أن تتأزّم الأمور فيها إلى حد الغليان.
يجري هذا كله، والكبار في العالم لاهون في لعبتهم الكبيرة، وهي الصراع على النفوذ، والتصعيد العسكري، والسكوت على الظلم، ومحاربة بعضهم بعضاً إلى مستوى الحافّة، فهل العالم على شفير هاوية جديدة من حربٍ بدأت تشهد توتيراً لا يتوقف، وتناطحاً ليس له هدف، إلّا أنّ كلّ واحد منهم لا يريد أن يرمش قبل الآخر؟ وإذا استمرّ التأزيم على حاله، والتصعيد والتوتير على منوالهما في المحيطين الهادئ والهندي، وفي شمال أوروبا، هل سيقع المحظور الذي يرهبه العالم وتقشعر من مجرّد ذكره الأبدان؟ ومن هو الذي له مصلحة كبرى في ذلك كله؟ وهل نحن عائدون إلى عالم قصة "تسعة وثلاثون خطوة" التي كتبها جون بيوكان (John Buchan) عام 1915 عن المؤامرة الخفية لإشعال حربٍ عالمية.
وقد تحوّلت القصة إلى أفلام ثلاث مرّات، وإلى مسرحية كذلك؟ هل عدنا إلى عالم جون هاناي الكندي البريء الذي يجد نفسه ضحيةً لجواسيس يريدون قتله، لأنه اطّلع على سرّ غريب لهم، ويسعون فيه إلى إشعال نار حرب كونية؟
لا شك أنّنا نعيش في ظروف صعبة وغامضة، وأنّ التهديد بالحرب، والصراع الاقتصادي، والحيرة بين الانكماش والتضخّم، تخفي تحت إزارها ما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين، وما يجري من مجاعات، وما يتهدّد مستقبل البشرية من جفاف في أماكن وفيضانات في أماكن أخرى. وكلاهما ينطوي على أذى، ويسبب كوارث وضحايا بشرية بين الناس "الغلابى" في هذه الأرض المنكودة.