أزمة إسكان في بريطانيا: شح في المعروض وأسعار باهظة تهدد المجتمع والديمقراطية

23 مايو 2024
أبراج سكنية جديدة شاهقة الارتفاع تحيط بمبانٍ منخفضة في قلب لندن، 6 فبراير 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تفاقمت أزمة الإسكان في بريطانيا، مع تضاعف متوسط سعر المنزل 65 مرة منذ السبعينيات، مما جعل امتلاك منزل حلمًا بعيد المنال للأجيال الجديدة، وأجبر العائلات على الاختيار بين الانتقال لمدن أقل تكلفة أو العودة لبلدانهم.
- الحكومات البريطانية واجهت صعوبات في معالجة الأزمة، مع الحاجة إلى بناء أكثر من خمسة ملايين منزل في الأعوام الخمسة عشر القادمة، وسط اتهامات متبادلة بين الأحزاب حول أسباب الأزمة وفشل السياسات الحالية.
- الأزمة أدت إلى تضاؤل فرص امتلاك منزل للأجيال الأصغر، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي والنظام الرأسمالي في بريطانيا، ويستدعي حلولاً جذرية وفعالة من الحكومة لضمان الاستقرار والعدالة الاجتماعية.

تبدد حلم الأجيال الناشئة في بريطانيا في امتلاك منزل بعدما تضاعف متوسط سعر المنزل 65 مرة منذ بداية السبعينيات، فيما يشعر جيل الشباب بالغبن والغضب، ويقر السياسيون بأن الأزمة تهدد الديمقراطية والمجتمع.
يعيش جورجي وزوجته ستويكا في ضاحية ميتشام في جنوب غرب لندن منذ قدومهما إلى بريطانيا من بلغاريا قبل أحد عشر عاماً. أنجبا خلال هذه الفترة طفلين التحقا بإحدى مدارس المنطقة، لكن الأسرة وجدت نفسها قبل شهرين أمام خيارين: إما الرحيل عن لندن إلى ليفربول بعدما أصبحت عاجزة عن دفع إيجار الشقة المؤلفة من حجرتين، أو العودة إلى بلغاريا رغم تداعيات ذلك على استقرار الطفلين.

تلخص تجربة الأسرة البلغارية موقف قطاع من أكثر المتضررين من أزمة الإسكان المتفاقمة في بريطانيا والتي عجزت الحكومات المتعاقبة على مدى العقدين الماضيين عن التخفيف من حدتها. فرغم أن عائلة جورجي دخلت بريطانيا بشكل شرعي مع انضمام بلغاريا للاتحاد الأوروبي، وقررت البقاء فيها بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، إلا أن الوضع الاقتصادي وفي قلبه أزمة العثور على مسكن بسعر مناسب، تمنع الأسرة من الاستقرار. جورجي كان يعمل في البناء حتى أصيب بالسرطان قبل خمس سنوت وزوجته تعمل في الرعاية المنزلية ودخلهما من مخصصات الضمان الاجتماعي لا يكفي لسداد إيجار الشقة الذي يبلغ 1500 جنيه إسترليني (حوالي 1900 دولار) شهرياً.

يروي جورجي أزمة أسرته في استسلام من حاول كل الحلول المتاحة قائلا: "لسنا وحدنا في هذا الموقف، غالبية الأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط التي نعرفها تعيش في نفس الدائرة المفرغة، فأزمة السكن تمنعنا من ادخار أي شيء لشراء منزل والآن تمنعنا من العثور على منزل في متناول دخلنا".

وطبقا لأحدث التقديرات الصادرة عن الوكالات العقارية، فقد ارتفع متوسط إيجار الوحدة السكنية في العاصمة لندن إلى 2100 جنيه إسترليني في الشهر، بينما بلغ المتوسط العام في بقية أنحاء بريطانيا 1300 جنيه إسترليني. أما أسعار المنازل فوصلت إلى مستويات صادمة حتى مقارنة بالمستويات العالمية. فقد ظل السعر المتوسط للمنزل وعلى مدى ثمانين عاماً (1916-1990) يخضع لمعادلة بسيطة هي أربعة أضعاف الدخل السنوي. لكن هذه المعادلة انهارت في السنوات الأخيرة ليصبح متوسط سعر المنزل أكثر من 10 أضعاف الدخل السنوي، مع الأخذ في الاعتبار أن متوسط الراتب السنوي هو 39 ألف جنيه إسترليني، بينما متوسط سعر المنزل 450 ألفا. وحسب دراسة لموقع "Tembo" للقروض العقارية فإن متوسط سعر المنزل في بريطانيا تضاعف 65 مرة منذ بداية عام 1970 فيما تضاعف متوسط الأجور 35 مرة فقط.

اتهام المهاجرين بمفاقمة الأزمة في بريطانيا

يقر السياسيون والمراكز البحثية بأن أزمة الإسكان قد تحولت إلى قنبلة موقوتة، وأنه يتعين على بريطانيا أن تبني أكثر من خمسة ملايين منزل خلال الأعوام الخمس عشرة القادمة لو أرادت تجاوز الأزمة، وهو هدف مستحيل تحقيقه عند الأخذ في الاعتبار معدل البناء الذي سُجل في الأعوام العشرة الماضية والذي لم يتجاوز 240 ألف منزل.

رغم ذلك، تتباين تفسيرات وأسباب الأزمة بشكل واضح بين التيار المحافظ والتيار ويسار الوسط. فالمحافظون في أغلبيتهم يرون أن ما يحكم أزمة الإسكان في الأساس عوامل لا ترتبط بسياساتهم وإنما بمعادلة السوق (العرض والطلب) وتزايد المهاجرين القادمين إلى بريطانيا، والتزايد المطرد في أعداد خريجي الجامعات.

يقر مايكل غوف وزير الإسكان والمجتمعات في حكومة المحافظين بأن أزمة الإسكان باتت "معقدة ومستفحلة، وقد تؤثر على حظوظ حزب المحافظين في الانتخابات العامة المقبلة". لكنه حين يعدد أسباب تلك الأزمة يعزوها إلى المهاجرين وتملك الأجانب وتراجع بناء المنازل بسبب الشروط المعقدة للحصول على تراخيص البناء من السلطات المحلية لمشروعات السكن الجديد داخل مناطقها.

"المهاجرون الجدد" هم عنوان كل الأزمات تقريباً حسب خطاب المحافظين واليمين في بريطانيا، ولا تُستثنى من ذلك أزمة الإسكان، التي من المؤكد أنها تتفاعل منذ خمسة عقود. الحجة نفسها كررها كبير الاقتصاديين في "بنك أوف إنغلاند" بنك بريطانيا المركزي، هيو بيل، الذي يرى أن المهاجرين إلى بريطانيا "يضعون ضغوطاً متزايدة على المتوفر القليل من المساكن". وقد سجل عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى بريطانيا رقماً قياسيا بلغ 740 ألفا عام 2022، وهو رقم أقل بكثير مما استقبلته دول مثل ألمانيا. كما أنه لا يأخذ في الاعتبار مئات الآلاف من الأوروبيين الذين عادوا إلى بلادهم بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

رغم ذلك يجادل مركز أبحاث "Centre for Policy Studies" وهو هيئة بحثية ليمين الوسط والمحافظين أن المهاجرين تسببوا في عجز يقدر في 1.34 مليون منزل، أي ما يعادل 84% من إجمالي العجز في المنازل في بريطانيا خلال الأعوام العشرة الماضية. وقد أعد المركز ورقة صادمة، أشرف عليها النائب المحافظ ووزير الهجرة السابق روبرت جنريك، وحصلت "العربي الجديد" على نسخة منها تقول إن "المهاجرين من الشرق الأوسط وتركيا خاصة هم أكثر عرضة لعدم العمل بمرتين قياسا بمن ولدوا في بريطانيا".

اليسار يعترض على تحميل المهاجرين المسؤولية

في المقابل، يقر حزب العمال المعارض والمؤسسات البحثية القريبة منه بعمق أزمة الإسكان التي تعيشها بريطانيا خاصة العاصمة لندن، لكنهم لا يرجعونها إلى المهاجرين والأقليات، بل لقرارات عدة كانت من فعل المحافظين. فالعمال يتعهدون ببناء 300 ألف منزل جديد سنويا والعمل على رفع قيمة "ضريبة التمغة" على المشترين الأجانب وبناء المزيد من "المساكن الشعبية" وهي المنازل التي تبنيها مجالس البلديات وتقوم بتأجيرها بسعر مخفض للفئات المستحقة.

وقد دأبت حكومات المحافظين والعمال على السواء ومنذ الستينيات على بناء هذه المنازل في كل المناطق تقريباً، وكانت أداة لتعزيز الاندماج الاجتماعي بين الطبقات. لكن السياسة تعرضت لانتكاسة كبيرة في الثمانينيات عندما منحت رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، بعد موافقة البرلمان عام 1980، المستأجرين لأكثر من خمسة ملايين منزل تملكها السلطات المحلية في إنكلترا وويلز، "الحق في شراء" تلك المنازل بأسعار مخفضة.

وتربط دراسات كثيرة بين "التاتشرية" التي عكسها هذا القرار وأزمة الإسكان الحالية. فبيع المساكن المملوكة للدولة لم يؤد إلى بناء منازل جديدة، كما أن كثيراً من هذه المنازل بعد بيعها تحولت إلى استثمار بالإيجار واشترتها شركات العقارات، ما أدى أيضا لنزوح المزيج السكاني الذي كانت تضمه إلى مناطق أبعد فيما بات يعرف بظاهرة الـ "Gentrification"

لكن منظمة "Crisis" الخيرية التي تسعى للتخفيف من معاناة الذين بلا مأوى تقول إن عدد الوحدات السكنية المملوكة لمجالس البلديات قد انخفض بعدد 240 ألف منزل في الفترة من 2012 إلى 2020 نتيجة "الحق في شراء" تلك المنازل. ربما يكون "حق الشراء" هو عنصر الخلاف الرئيسي بين المحافظين والعمال في ما يتعلق بالأزمة المستحكمة، فقد أكد عمدة مانشستر العمالي أندي بيرنهام خططه لبناء عشرة آلاف منزل جديد للإسكان الشعبي في أحياء المدينة بحلول عام 2028 دون أن يكون لمستأجريها حق الشراء وهي سياسة تبدو موضع اتفاق مع عمدة لندن العمالي أيضا صديق خان.

تلاشي فرص امتلاك منزل للأجيال الأصغر

لكن بعيداً عن ذلك لا يبدو أن أياً من الحزبين لديه خطط ناجعة لتجاوز الأزمة التي أصبحت بتقدير الخبراء "قنبلة موقوتة" تهدد المجتمع البريطاني. فوزير الإسكان مايكل غوف نفسه حذر في يناير/ كانون الثاني الماضي من أن أزمة الإسكان قد تتحول إلى تهديد للديمقراطية ولفرص إعادة انتخاب المحافظين. وقال غوف في مقابلة مع صحيفة التايمز" الطريق التقليدي الذي كان يمنح الشباب فرصة للعمل الجاد لشراء منزل قد أصبح مسدوداً، وهذا عائق أمامهم للقبول بأن الديمقراطية والرأسمالية تعملان لمصلحتهم".

الصورة تبدو قاتمة بالنسبة للأجيال الأصغر، فحسب الإحصاءات الرسمية إن أقل من خمس البريطانيين الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والعشرين والثالثة والأربعين يمتلكون منزلا الآن، بينما كان نصفهم تقريباً يملك منازل ولديهم أسر وأطفال في ثمانينيات القرن الماضي. تتلاشى فرص امتلاك منزل رغم العمل الجاد كلما صغرت السن، فالأمر أكثر قتامة بالنسبة لجيل Z، أي الذين ولدوا في الفترة بين عامي 1997-2012، فالتفكير في امتلاك منزل يبدو من المستحيلات.

تحكي "ماري" المتخرجة من جامعة كمبردج بدرجة الماجستير أن مأساة جيلها أنه "لم يلحق شيئا من دولة الرفاه، لقد حصل من سبقونا على كل شيء، نحن نتحمل فقط مدفوعات القروض الجامعية والوظائف المؤقتة". تعيش ماري مع ثلاثة من صديقاتها كلهن ينتمين إلى نفس المستوى العلمي في شقة بشمال لندن بإيجار يبلغ أربعة آلاف جنيه إسترليني شهرياً. وبإضافة مدفوعات الغاز والكهرباء والمياه والإنترنت وضريبة البلدية سيصل المبلغ إلى خمسة آلاف إسترليني، وهو ما يلتهم أكثر من ثلثي دخل كل منهن. وتقول في لقاء مع "العربي الجديد": الأمر واضح لي ولمن ينتمون لجيلي، لن نتمكن من شراء المنزل في الوقت الذي نحتاج إليه "ربما يحدث ذلك ونحن في العقد الخامس".

المعضلة الرئيسية حسب معظم الدراسات تكمن في الدفعة المقدمة، التي تشترط البنوك البريطانية في العقدين الأخيرين أن تساوي ربع القيمة الإجمالية للقرض العقاري للوحدة السكنية. وبحسبة بسيطة لمتوسط أسعار المنازل في بريطانيا، فإن هذه الدفعة تقدر بحوالي 60 ألف جنيه إسترليني، ترتفع إلى 130 ألفاً في لندن، وإذا تمكن من هم في العشرينيات من توفير 200 جنيه شهرياً من دخولهم فإن ذلك سيعني 24 عاماً من التوفير، ترتفع إلى 45 عاماً في لندن، فقط للدفعة المقدمة التي ستتآكل قيمتها بمرور الوقت. بالتأكيد سيتغير الوضع بشكل كبير لمن لديهم عائلات قادرة تتمكن من مساعدتهم في توفير المبلغ.

تدفع هذه الضغوط ماري وجيلها إلى خيارين أحلاهما مر بالنسبة لهم: إما العودة إلى منزل العائلة، إذا كان موجوداً، وهو أمر غير مألوف في الثقافة البريطانية، لكنه أصبح متزايداً، أو العيش في مكان مستأجر والعزوف عن الارتباط وتكوين عائلة، وهو أمر يدق ناقوس الخطر، خاصة في أوساط اليمين، في مجتمع يتزايد فيه عدد المسنين باضطراد، بينما يعتمد نمو السكان في الغالب على أبناء المهاجرين، الذين تسعى بريطانيا الرسمية للحد منهم. لكن الجميع يتفق على أن امتلاك منزل قد أصبح حلماً بعيد المنال وأن الحكومات البريطانية المتعاقبة قد فشلت في حل أزمة الإسكان، فأصبحت "قنبلة موقوتة" تهدد السياسة والمجتمع.