لا أعرف لماذا يصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على إطاحة قيادات المؤسسات الاقتصادية التي يمنحها القانون استقلالية في اتخاذ القرارات كما هو الحال مع البنك المركزي، أو مؤسسات تخرج منها أرقام تزعجه وحكومته من وقت لآخر، كما فعلت هيئة الإحصاء الوطنية، حينما أعلنت قبل أيام وصول معدل التضخم إلى مستويات هي الأعلى منذ 19 عاماً، أو جهات تصدر مؤشرات ليست على هوى خطط الحكومة ومقاسها.
فقد أقال أردوغان خمسة من قيادات البنك المركزي التركي خلال فترة لا تتجاوز العامين والنصف، والحجة التي ساقها القريبون منه، أنّ تلك القيادات لا تتماهى مع السياسات العامة للدولة وتوجهات الرئيس الاقتصادية، وترفض خفض سعر الفائدة على الليرة، وتعرقل خطط أردوغان الرامية إلى خفض تكلفة الأموال داخل المجتمع.
وبالتالي التأثير سلبا على خطط خفض الدين العام للدولة، وتقليل تكلفة القروض التي يحصل عليها القطاع الخاص الذي تقع عليه مسؤولية كبيرة في توفير فرص عمل وزيادة الصادرات والإنتاج المحلي، وخاصة من السلع الأساسية للمواطن والأسواق.
أقال أردوغان 5 من قيادات البنك المركزي خلال فترة لا تتجاوز العامين والنصف، والحجة، أنّ تلك القيادات لا تتماهى مع توجهات الرئيس الاقتصادية
في 6 يوليو 2019 عزل الرئيس التركي محافظ البنك المركزي، مراد تشتين قايا، ليحل محله نائبه مراد أويصال. وفي 20 مارس 2021 أقال المحافظ ناجي أغبال من منصبه، وعيّن الاقتصادي والسياسي شهاب قاوجي أوغلو بدلاً منه، وفي 30 مارس 2021 أصدر أردوغان قراراً بإقالة نائب محافظ البنك مراد جيتين كايا، وتعيين مصطفى دومان بديلاً له، وذلك بعد نحو أسبوع فقط من إقالة المحافظ ناجي أغبال.
وفي 14 أكتوبر 2021، أقال أردوغان ثلاثة من قيادات البنك المركزي، هما نائبا المحافظ، وعضو في مجلس السياسات النقدية الذي يحدد اتجاهات سعر الفائدة.
ومع القفزات الأخيرة في سعر الدولار مقابل الليرة، زادت تكهنات الإقالة الرابعة، وعزل المحافظ الحالي للبنك المركزي شهاب قاوجي أوغلو وتحميله مسؤولية اضطرابات سوق الصرف وتهاوي العملة المحلية وحدوث قفزات في الأسعار لم تحدث منذ 20 سنة.
جديد قرارات أردوغان، إقالة رئيس هيئة الإحصاء الوطنية، سعيد إردال دينجر، يوم السبت، بعد نشر الأرقام السنوية للتضخم. واللافت هنا هو تعيين إرهان تشيتينكايا، نائب الرئيس السابق لهيئة التنظيم المصرفية التركية في المنصب.
وهيئة الإحصاء لمن لا يعرفها هي تلك المؤسسة التي تخرج منها الإحصاءات الرسمية للدولة مثل أرقام التضخم والبطالة والدين العام والإنتاج الصناعي والناتج المحلي وغيرها من الأرقام التي ترتبط بالمؤشرات الاقتصادية العامة وحال الأسواق ومعيشة الفرد، وكذا الإحصاءات السكانية والاجتماعية مثل عدد السكان والمواليد والوفيات وغيرها.
عزل دينجر كانت له مقدمات، فقد تعرض لانتقادات حادة من المؤيدين لسياسات أردوغان والمعارضين لها على حد سواء، بعد نشره بيانات في بداية شهر يناير الجاري قدرت معدل التضخم السنوي في شهر ديسمبر الماضي عند 36.1%، وهو أعلى مستوى منذ سبتمبر 2002، وذلك على خلفية تهاوي قيمة الليرة وحدوث قفزات للأسعار في الأسواق.
دينجر تعرض لانتقادات حادة من المؤيدين لسياسات أردوغان والمعارضين لها، بعد نشره بيانات قدرت معدل التضخم السنوي في ديسمبر عند 36.1%
فالمؤيدون للحكومة يرون أن أرقام هيئة الإحصاء مزعجة ومبالغ فيها، وخاصة مع تحسن الليرة في الثلث الأخير من شهر ديسمبر وارتفاعها بنسبة تفوق 30% مرة واحدة، فيما اعتبرت المعارضة أن الرقم الرسمي للتضخم أقل من الواقع، وأن الزيادة الفعلية في كلفة المعيشة أعلى مرتين على الأقل من نسبة التضخم المعلنة.
وهو ما أشار إليه الاقتصادي العالمي الشهير ستيف هانكي، أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة جون هوبكنز، الذي ذكر أن معدل التضخم الفعلي في تركيا يبلغ ثلاثة أضعاف الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الحكومة، وأنه باستخدام البيانات عالية التردد ونماذج عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، تبين أن معدل التضخم الفعلي بلغ 58.75%.
وسط حالة التشكيك تلك، دافع سعيد إردال دينجر عن أرقامه، وقال: "أمامي مسؤولية تجاه 84 مليون شخص"، وكان من المستحيل نشر أرقام تضخم مختلفة عن تلك التي سجلتها الهيئة.
المواطن والزائر لتركيا يدرك على أرض الواقع أن معدل التضخم مرتفع بشكل يفوق القدرة الشرائية، يلمس ذلك في أسعار السلع الغذائية وفواتير الكهرباء والمياه والغاز وايجارات المساكن.
بل إن وزير المالية التركي نور الدين النبطي، توقع قبل أيام أن تشهد بلاده ارتفاع معدل التضخم إلى ذروته عند نحو 40% في الأشهر المقبلة من عام 2022.
وكل التوقعات تشير إلى أن تركيا مقبلة على موجة تضخم غير مسبوقة لأسباب محلية تتعلق بتهاوي الليرة، أو عالمية تتعلق بقفزات أسعار الطاقة، سواء نفط أو غاز المتوقعة خاصة مع زيادة سعر الفائدة على الدولار.
عزل أردوغان لرئيس هيئة الإحصاء لن يؤدي إلى تحسن أرقام التضخم وتراجع أسعار السلع والخدمات، بل يؤدي إلى قلة الثقة في الأرقام الرسمية
وبالتالي فإن عزل أردوغان لرئيس هيئة الإحصاء لن يؤدي مثلا إلى تراجع أرقام التضخم ومعه أسعار السلع والخدمات، أو تحسين القدرة الشرائية للمواطن، بل يؤدي إلى نتيجة واحدة، هي قلة الثقة في الأرقام الرسمية والقرارات الصادرة عن المؤسسات الاقتصادية في الدولة، بما فيها البنك المركزي.
وهنا تكمن خطورة عزل قيادة المؤسسات التي لا تروق للنخبة الحاكمة ومحاولة السيطرة على صناعة القرار الاقتصادي في البلاد.