يبدي بعضهم استغرابه من إصرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على خفض أسعار الفائدة، وتأكيده أمس الاثنين مجدداً أنه لن يؤيد مطلقاً رفع أسعار الفائدة، وأنه "لن يتراجع أبدا عن ذلك"، رغم استمرار تهاوي الليرة، خاصة أن هذا الإصرار الملفت قد يدعم اضطرابات سوق الصرف الحالية مع استمرار زيادة معدل التضخم، وهو ما حدث بالفعل اليوم الثلاثاء حيث عادت الليرة للتراجع بعد تحسن لم يدم طويلاً.
لكن دعونا نرصد هنا أموراً عدة، لعلها تفسر موقف الرئيس التركي الذي يصف نفسه بأنه "عدو" أسعار الفائدة المرتفعة، ويؤمن بالفرضية غير التقليدية التي تقول إن خفض الفائدة يقود إلى تراجع معدل التضخم، وليس العكس.
1
أول هذه الأمور أنّ أردوغان ينطلق من إصراره على خفض سعر الفائدة من أسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، فزيادة الفائدة تزيد أعباء الدين العام، باعتبار أن الحكومات هي أكبر المقترضين من البنوك، وفي حال زيادة تلك الأعباء فإنها تستقطع المليارات من مخصصات بنود أخرى، مثل التعليم والصحة والإنفاق على البنية التحتية.
2
ثاني الأمور أنّ المستفيد الأول من أسعار الفائدة العالية في أي دولة هو الأموال الساخنة وبنوك الاستثمار العالمية التي تقترض من بنوكها الغربية بسعر فائدة قد يقل عن 1%.
وبعدها تذهب تلك الأموال إلى تركيا وغيرها من الدول الناشئة لشراء أدوات دين حكومية مثل السندات وأذون الخزانة، والحصول على أسعار فائدة تصل حاليا إلى 15% وقبلها إلى نحو 20% وربما 24%، كما جرى في تركيا قبل شهور عندما قرر البنك المركزي زيادة السعر إلى هذا المستوى القياسي.
وبالتالي يريد أردوغان قطع الطريق على أصحاب الأموال الساخنة في اغتراف مليارات الدولارات من اقتصاد وخزانة بلاده، من دون قيمة مضافة أو توفير فرصة عمل واحدة، بل يشكل هؤلاء ضغطاً شديداً على الليرة التركية في حال حدوث خروج مفاجئ عقب وقوع أي خطر، سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً.
3
ثالث هذه الأمور أنّ أردوغان يطالب بخفض سعر الفائدة لتحقيق أهداف اقتصادية متعددة، منها توفير أموال رخيصة للقطاع الخاص من شركات ومستثمرين ورجال أعمال تساعد في تأسيس المشروعات الجديدة وتدشين خطوط الإنتاج، وبالتالي خلق فرص عمل لملايين الشباب، والحد من البطالة، ودعم القطاع الإنتاجي، سواء الصناعي والزراعي أو التصديري، وهذا كله إضافة للاقتصاد القومي.
4
رابع هذه الأمور أنّ أردوغان ضد رفع سعر الفائدة في بلاده، ليس لأسباب دينية فقط، بل لأسباب تتعلق بمستوى أسعار الفائدة السائدة في الاقتصاديات الكبرى، ومنها اقتصاد مجموعة العشرين، فأسعار الفائدة في بعض دولها قد تقل عن 1% وأحياناً قريبة من الصفر.
وبالتالي فالرجل محق في استغرابه من وصول أسعار الفائدة في بلاده إلى نحو 20%، في الوقت الذي تدور في الاقتصاديات الكبرى الأخرى حول مستوى الربع في المائة وربما الصفر، كما هو الحال في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان.
5
خامس تلك الأمور أنّ أردوغان لم يطالب بتصفير سعر الفائدة، أي جعلها صفراً، وإلا كان طالب بإغلاق البنوك التجارية في بلاده التي تتاجر في الأموال والنقود بيعاً وشراء، إذ تتلقى البنوك الودائع وتمنح القروض مقابل إعطاء المودع سعر فائدة عالياً حالياً، أو الحصول على أسعار فائدة من المقترض يتم تحديدها طبقاً لاعتبارات، منها الأسعار السائدة لدى البنك المركزي، وتكلفة الأموال، ودرجة مخاطر العميل وقدرته على السداد وغيرها.
6
سادس هذه الأمور أنّ أردوغان لم يطالب مثلا بنشر وتعميم تجربة البنوك الإسلامية المعروفة باسم بنوك المشاركة في بلاده والتي لا تتعامل بآلية الربا وأسعار الفائدة الثابتة، بل إن انتشار مثل هذه النوعية من البنوك لا يزال محدودا داخل البلاد.
والأرقام تشير إلى أن حصة الخدمات المصرفية الإسلامية من إجمالي الأصول المصرفية داخل تركيا بلغت 7.1% في نهاية 2020. ومن هنا لا يجب النظر إلى مهاجمة أردوغان سعر الفائدة العالي على أنه ينبع من منطق ديني بحت، بل من منطق اقتصادي ومالي أيضاً.
7
سابع هذه الأمور أنّ منح البنوك مودعيها سعر فائدة كبيراً يدفع أصحاب الأموال إلى الارتكان لهذا السعر المغري وعدم التوجه للاستثمار المباشر، وبالتالي الحصول على عائد مرتفع مقابل التعرض لمخاطر أقل، وبالتالي هنا يتم حرمان المجتمع من ملايين المشروعات التي يمكن تأسيسها مباشرة بأموال رخيصة التكلفة.
8
ثامن الأمور التي يجب لفت النظر إليها، هي أنّ تجربة حزب العدالة والتنمية قائمة على تنمية القطاع الإنتاجي، لا القطاع الريعي، باعتبار أنّ القطاع الأول يحقق عدة أهداف، أبرزها توفير فرص عمل وزيادة الصادرات والحد من الواردات، وبالتالي الحد أيضا من نزيف مليارات الدولارات التي تذهب للخارج لاستيراد سلع ومنتجات يمكن إنتاجها محليا في حال توفّر أموال رخيصة وطاقة بتكلفة مقبولة. ومن هنا فإن الفائدة العالية تدعم الاقتصاد الريعي، لا الإنتاجي.
9
أسعار الفائدة العالية تسبب التضخم وتعرقل خطط تركيا في احداث قفزة في الصادرات، وأن أردوغان يتوقع انخفاض التضخم قبل الانتخابات المقرر إجراؤها في منتصف عام 2023.
10
الأمر الأخير والعاشر هنا هو أنّ أردوغان عندما يهاجم أسعار الفائدة العالية فإنّه يخاطب شريحة كبيرة من الأتراك الذين يتعاملون مع الفائدة على أنّها ربا محرم شرعاً، وهذا العامل يرتبط بعوامل دينية وربما اعتبارات انتخابية أيضاً.
هذه اعتبارات عشرة مهمة يجب أخذها في الحسبان عند مناقشة قضية أسعار الفائدة في تركيا والتي تحظى باهتمام واسع سواء من المؤيدين أو المعارضين لنظام أردوغان.
لكن في المقابل فإن الأسئلة المطروحة: كيف تواجه تركيا مخاطر اضطرابات سوق الصرف وتهاوي سعر صرف الليرة والتضخم العالي مع إصرار أردوغان على خفض سعر الفائدة الذي قد يتبعه تخلي المدخرين عن العملة المحلية، وزيادة حيازة الدولار وغيره من العملات الأجنبية داخل المجتمع، واستمرار حدوث قفزات في أسعار السلع والخدمات داخل الأسواق؟
وإذا كان هدف خفض سعر الفائدة في المجتمع بشكل كبير يحتاج تحقيقه إلى سنوات لارتباطه بأمور أخرى منها مكافحة التضخم، وزيادة الإنتاج ورخص تكاليف مدخلاته، وتقوية الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي، والحد من الدين الخارجي، وتقليل الأعباء المستحقة عليه، فماذا عن المستقبل القريب، حيث تدفق الأموال الساخنة على تركيا، والمضاربات الشرسة على الليرة التركية، وزيادة أعباء الدين الخارجي الضخمة خاصة المستحقة على القطاع الخاص؟
هذه أسئلة يجب التعامل معها والإجابة عنها قبل المطالبة والاصرار على خفض أسعار الفائدة واعتبارها الشر الأوحد والأكبر في تركيا.