أحجية رفع سقف الدين الأميركي

14 يونيو 2023
الكونغرس الأميركي بمجلسيه أقر اتفاق تعليق سقف الدين (Getty)
+ الخط -

لا أجد مبرراً لحكومة وأكبر بنك مركزي في العالم ألا يوافق الكونغرس الأميركي (مجلسا الشيوخ والنواب) على رفع سقف الديون كما حصل قبل أيام أو في الاستحقاقات المقبلة! إذ إنه منذ العام 1960 تم رفع سقف الدين 79 مرة ولم تواجه أميركا تخلفاً عن السداد مرةً واحدةً منذ إقرار القانون في العام 1917، كأننا أمام قطعة نقدية تحمل على كلا الوجهين صورة مهما رُمِيت القطعة في الهواء سيظهر احتمال الصورة. لماذا إذن تنجر الدول لمخاوف غير محتملة الحدوث؟ لمجرد نقاش خيار تخلف أميركا عن السداد سنقف أمام كارثة اقتصادية عابرة لن يتمناها الأعداء قبل أميركا نفسها، أو كما وصف أحد الخبراء أن الأزمة المالية العالمية 2008 ستبدو كأنها "حفلة شاي" إذا تخلفت أميركا عن سداد ديونها بالفعل.

ومع النظر في التفاصيل سيظهر جلياً أن هذا الموضوع، رفع سقف الدين، حافظ على كونه صراعاً سياسياً أكثر منه اقتصاديا بين الجمهوريين والديمقراطيين لتحصيل مكاسب وتقديم تنازلات من طرف لطرف آخر، وفي نهاية المطاف ينصاع أحدهما للآخر ويُقر القانون برفع السقف وتنتهي الأزمة أو بمعنى أدق؛ تُؤجل.

فكيف يمكن وصف هذا الأمر! هل يوصف بأزمة داخلية في عمق رأسمالية أميركا أم خلل وظيفي أم سياسة فاسدة، ولماذا يجب أن تحصل كل هذه الدراما والتشويق لتخلف أميركا عن السداد وإدخال الاقتصاد العالمي في نفق مظلم؟

أميركا تذكر العالم بقوتها

أُسدل الستار على ديون أميركا بعدما أجّل مجلس النواب العمل بقانون سقف الدين العام حتى 2025 ليبعد شبح تخلّف الولايات المتّحدة عن سداد ديونها البالغة 31.4 تريليون دولار، بعد أسابيع من نقاشات وخلافات ماراثونية بين البيت الأبيض والجمهوريين.

وبعد التصويت على القانون بالأغلبية سارع الرئيس جو بايدن إلى الترحيب والقول إنّ "مجلس النواب اتّخذ خطوة أساسية للحؤول دون أن تتخلف الولايات المتحدة، لأول مرة في تاريخها، عن سداد ديونها"، وشدد على أن "الطريق الوحيد للمضي قدماً هو تسوية بين الحزبين".

عادة لا يَهتم العالم بتخلف الدول الصغيرة وذات الاقتصادات المتخلفة عن سداد ديونها، بالكاد تسمع وتتأثر الأسواق بتخلف دول مثل لبنان عن سداد ديونه، في حين يسيل لعاب البنوك والمؤسسات المالية في حال تخلّفت اقتصادات الدول الناشئة عن السداد لما تمثله من فرصة لإقراضها والتربح من معدلات الفائدة، أما في حالة أميركا فالقصة مختلفة تماماً، وحالتها لا تشبه ولن تشبه أيضاً أي دولة في العالم على الإطلاق.

يؤثر العجز المالي على اقتصادات الدول وتعاني مالياً وتقبع في الركود للخروج من العجز، أما أميركا فما عليها إلا أن ترفع سقف الدين للمضي قُدماً وسداد ديونها وتحقيق معدلات نمو، وفي الوقت الذي تُسفر فيه طباعة النقود عن آثار تضخمية وأزمات، لا تتوقف مطابع البنك الفيدرالي الأميركي عن طباعة الدولار بدون آثار سلبية على اقتصاد البلاد، وتتهافت الدول على شراء سندات الخزانة الأميركية (ديون الحكومة) بتريليونات الدولارات، حيث بلغت الديون الأميركية للدول الأجنبية 7.4 تريليونات دولار حتى كانون الثاني 2023 تمثل 24% من إجمالي ديون الولايات المتحدة، وتأتي اليابان والصين وبريطانيا في مقدمة الدول التي يدين لها الاحتياطي الفيدرالي بأكبر حصة من الديون الأجنبية.

على مدار العقود الماضية تمكنت الولايات المتحدة من جعل الدولار عملة دولية تربط نحو 65 دولة قيم عملاتها به، وبات أداة تحوط وعملة احتياطي أجنبي إذ يمثل 50% من مجمل الاحتياطيات الأجنبية حول العالم، وبلغ وزن العملة الأميركية ضمن حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي 43.38% بناء على تطورات التجارة والأسواق المالية، وهو العملة المعتمدة في تسعير العديد من المواد الأساسية بالأسواق والبورصات العالمية وخاصة في قطاع الطاقة والمعادن، كل هذا يقبع ضمن منظومة مالية على مستوى العالم تم تصميمها منذ منتصف القرن الماضي وتطورت مع الوقت، لذا نجحت أميركا في جعل عملتها واقتصادها مرآة للاقتصاد العالمي، وكون الهبوط في مؤشراتها الاقتصادية يُحدث أزمة في الأسواق المالية العالمية.

ولم تكن لأميركا هذه القوة بدون صناعاتها المتطورة والتي تحتل المراتب الأولى في مختلف الصناعات الأساسية والاستهلاكية من الصلب والكيماويات والإلكترونيات والتكنولوجيا والسيارات والطائرات ومعدات الفضاء وغيرها، وتمتاز البلاد بوفرة مصادر الطاقة والمعادن على أراضيها، فضلاً عن سوق استهلاكية نشطة وكبيرة حيث يقدر عدد سكان الولايات المتحدة بـ326 مليون نسمة لهم قدرة شرائية عالية، وأخيراً هناك الموارد البشرية ذات الكفاءة العالية واستقطاب العقول والأدمغة، ولا مجال لنسيان العوامل التنظيمية والقانونية التي تتمتع بها البلاد.

ولعلّ رفع سقف الدين من قبل الإدارات الأميركية تذكير للعالم بمن انتصر في الحرب العالمية الثانية 1945، ومن صمم الاقتصاد العالمي ويمتلك أكبر اقتصاد وناتج إجمالي، فضلاً عن ترسانتها وقوتها العسكرية والسياسية.

لذا خلال أزمة رفع سقف الدين الأميركي في العام 2025 لا داعي للقلق والخوف، الأجدى تذكر الهيمنة الأميركية وسطوتها على الأسواق والاقتصاد العالمي وحسب.

لهذه الأسباب وغيرها لن يسمح الجمهوريون والديمقراطيون بعرقلة رفع سقف الدين، وهو ما عبّر عنه رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي بقوله إن الجمهوريين لن يسمحوا بتخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها، لكنهم يرغبون في السيطرة على الإنفاق الجامح، وبالإمكان نسخ هذا التصريح في العام 2025 وبعده، في حال استمرار ذات الظروف الدولية.

لا بديل عن الدولار

لا شك أن طريقة إدارة الديون الأميركية مجحفة بحق دول العالم، وظالمة أيضًا، لكن لا بد من الاعتراف بحقيقة مفادها أن العالم لم يُقدم نموذجاً اقتصادياً آخر، وأميركا بعملتها وأسواقها ومصارفها وشركاتها وناتجها القومي وقوتها السياسية والعسكرية، لا تزال تصيغ بوصلة العالم الاقتصادي، وواقع الحال أن الدول تغرّد داخل السرب.

يدرك البيت الأبيض جيداً أن ساحة المعركة لم تكن في الحقل النقدي في يوم من الأيام، بل في حقل الإنتاج والعمل والبحث والتطوير والقدرة على الابتكار والتجديد وقوة العلامات التجارية والتصدير، وهو ما عملت عليه الصين ونجحت فيه، فمنذ العام 1990 وحتى العام 2019 ضاعفت الناتج القومي الصيني بمقدار 14 ضعفاً تقريباً، أدركت أن قوة العملة وملاءتها وتدويلها هي النتيجة وليس السبب.

مؤخراً نشأ تيار في بعض الدول يضغط لاعتماد العملات الوطنية في التجارة البينية وعمل مؤسسات مالية وإقامة تحالفات، لكنها تبقى تجارب تحتمل النجاح والفشل، وباعتقادي أن من يريد هدم البنية المالية الحالية لا يجب أن يكون مشتركاً ومتربحاً منها، فالصين على سبيل المثال تعد أكبر دولة لديها سندات دين أميركية، وتعتمد على الأسواق والشركات والتكنولوجيا الأميركية بشكل كبير ولديها حقوق سحب خاصة في صندوق النقد الدولي!

على الطرف المقابل، تعمل الصين لتكون مساهماً رئيسياً في سلاسل التوريد والصناعة العالمية ووجهة متزايدة للاستثمارات الأجنبية المباشرة وتسهيل التجارة الحرة والبينية والتعاون الاقتصادي مع دول العالم، فضلاً عن كونها محركاً لنمو الاقتصاد العالمي، وأسست "صندوق الصين العظيم" لتنافس صندوق النقد الدولي ما سيسهم في تعزيز الاستخدام الدولي للعملة الصينية، كما أنشأت "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية" والذي بلغ عدد أعضائه 102 دولة يقوم بإقراض العديد من الدول النامية، ما يشكّل منافسة لدور البنك الدولي، وأقامت تحالفات مع الاقتصادات الناشئة سريعة النمو على شاكلة تحالف "بريكس" والذي يمثّل 40% من سكان العالم وربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وكان قد تبنى في أول اجتماع له في العام 2009 تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية. لا شك أن الصين وما تقوم به باتت تشكل تهديداً لمكانة أميركا الاقتصادية ولهذا السبب اشتعلت النزاعات بين الدولتين خلال السنوات الماضية.

عطفاً على بدء، وعلى الأسئلة التي طُرحت في البداية، يمكن القول إن رفع سقف الدين هو جزءٌ من الأزمة الداخلية في النظام الرأسمالي وعدم وجود بديل حتى الآن، وخللٌ وظيفي في الإدارات الأميركية التي فشلت مراراً وتكراراً في موازنة مدفوعاتها، وسياسةٌ فاسدة ومقصودة للهيمنة على الاقتصاد العالمي. أمام هذه الظروف الحالية لا عجب أن يستمر سقف الدين الأميركي في الارتفاع والعالم يقلق ويتفرج.

 

المساهمون