آثار عميقة للمقاطعة العربية... وثائق بريطانية تُظهر قوة الظاهرة في خمسينيات القرن الماضي

20 ديسمبر 2023
دعوات المقاطعة تركز على سلاسل تجارية وغذائية وشركات حاسبات (Getty)
+ الخط -

ما أن بدأ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه المدمر على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حتى تصاعدت جبهة شعبية في الكثير من البلدان العربية وغيرها لمقاطعة سلع إسرائيل وداعميها، قابلتها جبهة أخرى من أصحاب المصالح ورؤوس الأموال للتشكيك في الأضرار التي يمكن أن تلحق بالشركات الداعمة للاحتلال بشكل مباشر أو تحمل جنسيات الدول التي تقف بجانب إسرائيل.

لكن وثائق تاريخية للحكومة البريطانية تعود لعام 1957، تكشف تداعيات المقاطعة العربية على مدار سنوات طويلة ماضية ليس فقط على الاقتصاد الإسرائيلي وإنما أيضاً على اقتصاد المملكة المتحدة.

وبجانب التحركات المنظمة من قبل حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها "بي دي إس" ("BDS")، وهي حركة فلسطينية ذات امتداد عالمي، جاء التجاوب الواسع من قبل شعوب المنطقة العربية تحديداً ليظهر عمق مقاومة الشعوب للاحتلال بطريقتها.

وطاولت المقاطعة شركات عالمية لتصنيع الملابس الرياضية، منها "بوما" التي ترعى الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم وشركة هيوليت باكارد (HP)، التي تساعد في تشغيل نظام تحديد الهوية البيومترية الإلكترونية الذي تستخدمه إسرائيل لتقييد حركة الفلسطينيين، كذلك شركة "حمص صبرا"، التي توفر شركتها الأم الدعم المالي لجيش الاحتلال.

كما امتدت المقاطعة إلى سلاسل الوجبات السريعة الكبرى، بما في ذلك "كنتاكي" و"بيتزا هت" و"برغر كنغ" و"كوكا كولا" و"بيبسي" فضلاً عن عمالقة التكنولوجيا غوغل وأمازون، لتقديمها الخدمات للحكومة والجيش الإسرائيليين.

وتتجلّى المقاطعة الكبرى لسلسلة الوجبات السريعة "ماكدونالدز" ومقاهي "ستاربكس" في العديد من البلدان العربية والمسلمة بما في ذلك مصر والأردن والسعودية والمغرب وتركيا وماليزيا وباكستان. ووصلت تداعيات هذا الصراع إلى المملكة المتحدة، حيث واجهت السلسلتان موجات مقاطعة.

تثير فعالية هذه المقاطعة وتداعياتها الاقتصادية المحتملة على إسرائيل تساؤلات عدة، حيث يؤكد المتضامنون معها أنها قوة ضغط فاعلة، بينما يشكك آخرون في جدواها. لكن في مواجهة حملات التشكيك هذه، تظهر وثائق حكومية بريطانية تداعيات المقاطعة العربية التي عادت لسنوات طويلة ماضية.

وممّا جاء في الوثائق التي تعود لعام 1957 وبقيت سرّية لعقود من الزمن، والموجودة حالياً في الأرشيف الوطني البريطاني، الذي اطلعت عليه "العربي الجديد"، أنّ جامعة الدول العربية فرضت في عام 1952 رسمياً مقاطعة اقتصادية على إسرائيل، ثم أنشأت لجنة مقاطعة مركزية سعت إلى ضمان مقاطعة الشركات في جميع أنحاء الدول العربية التي لها مصانع فرعية أو مصانع تجميع أو وكلاء عامون أو مكاتب رئيسية في إسرائيل أو من المساهمين في الشركات الإسرائيلية التي ترتبط بعلاقات تجارية مع بريطانيا أو التي لديها أعضاء صهاينة بارزون في مجالس إدارتها.

وبحسب الوثائق، أدت هذه المقاطعة إلى تأثير خطير على التجارة البريطانية وتكبّدت بعض الشركات البريطانية خسائر في التجارة والأرباح. وطاولت آثارها الشحن البريطاني، حيث رفضت موانئ الدول العربية تقديم التسهيلات العادية مثل البضائع والتموين وغيرها من خدمات السفن التي رست في ميناء إسرائيلي خلال رحلة احتاجت إلى التوقف في ميناء عربي.

والجدير بالذكر أنه في المسار الطبيعي للتجارة في شرق البحر الأبيض المتوسط، تتوقف سفن الشحن في كل من الموانئ الإسرائيلية والعربية في الرحلة نفسها. لكن القيود العربية أجبرت مالكي السفن البريطانيين على فصل إسرائيل عن التجارة العربية، ما أدى إلى عدم إمكانية استخدام سفنهم بالطريقة الاقتصادية الأقل كلفة.

أيضاً تلفت الوثائق إلى تأثير المقاطعة على مصالح النفط البريطانية، ففي عام 1948، قبل فرض المقاطعة رسمياً، منع العرب تدفق النفط عبر خط أنابيب حيفا إلى مصفاة حيفا (المملوكة للمصافي الموحدة التي بدورها مملوكة بنسبة 50% لشركة شل و50% لشركة بريتيش بتروليوم)، ما أدى على الفور إلى خسارة نحو 3 ملايين طن من المنتجات القابلة للتصدير.

لكنها تشير إلى أنه تم تعويض هذه الخسارة منذ ذلك الحين من خلال توسيع طاقة التكرير في أماكن أخرى وإدخال قدرة إضافية (ناقلات وخطوط أنابيب) لنقل النفط.

وفي ديسمبر/كانون الأول 1955، أوصت لجنة النفط العربية جميع الدول العربية بإرسال إنذار نهائي إلى شركة "شل" و"سوكوني" (شركة أميركية)، ينص على ضرورة وقف أنشطتهما التجارية في إسرائيل خلال ستة أشهر.

ونجم عن ذلك، انسحاب شركة سوكوني، تحت ضغط من السعودية، من إسرائيل في غضون عامين، وبعد فترة حذت حذوها كل من شركتي "شل" و"بريتيش بتروليوم" في تلك الفترة.

أمام هذه الأضرار الاقتصادية البريطانية، احتجت الحكومة البريطانية آنذاك لدى الدول العربية على مبدأ المقاطعة، وأكدت مراراً أنها لا تستطيع قبوله أو التغاضي عنه. وحاولت محاربته من خلال تنظيم احتجاجات مشتركة مع الدول الأوروبية الأخرى والولايات المتحدة، التي فضّلت عدم اتخاذ أي إجراء حينها.

وأخيراً تؤكّد الوثائق فاعلية المقاطعة، حيث تقول إن "عدم فعالية احتجاجاتنا العامة أدت في الواقع إلى تأكيد اعتقاد العرب بأننا لا نستطيع التغلب على مقاطعتهم".

وتواصلت "العربي الجديد" مع أنس التكريتي، الرئيس التنفيذي لمؤسسة قرطبة في لندن لحوار الثقافات والمحاضر في اللغويات والدراسات السياسية في العديد من جامعات المملكة المتحدة، وسألت عن مستوى تداعيات المقاطعة على الاقتصاد الإسرائيلي في يومنا هذا، فقال إن للمقاطعة عدة أبعاد، وبالتأكيد أول ما يخطر على البال البعد الاقتصادي الذي من دون شك له تأثير.

مع ذلك، هناك أشخاص يتساءلون: "كيف يمكن لمؤسسات قيمتها عشرات المليارات أن تتضرر جراء مقاطعة مستهلكين يصرفون بضعة جنيهات فيها؟".

يوضح التكريتي أن هذه النظرة لمبدأ المقاطعة بسيطة ومجزّأة. أولاً لأنّ توقف ملايين الناس عن إنفاقهم الأسبوعي أو الشهري المنتظم ولو لعشرة جنيهات إسترلينية أو دولارات في هذه الشركات، من دون شك له أثر، وهذا لا يعني أن يؤدي إلى إغلاق الشركة، لكنّه يلحق بها الضرر ولو بشكل بسيط.

وثانيا، هناك أمور أخرى تنطوي تحت فكرة المقاطعة وهي الحرب النفسية بالدرجة الأولى وليس الحرب الاقتصادية فقط، ويعني أن الانتصار الكبير الذي حقّقته غزة اليوم هو بناء وصناعة الوعي لدى ملايين الناس، الذين اكتشفوا شيئا اسمه فلسطين وغزة وأدركوا أن إسرائيل هي دولة احتلال وفصل عنصري، ما أدّى بالتالي إلى تبديل الآراء والمواقف بشكل جذري.

ويضيف أنه لو لم يكن هناك تأثير لحملة المقاطعة لما تعرّضت حركة "BDS" لحرب شعواء في جميع أنحاء العالم إلى درجة تجريمها في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وعلاوة على ذلك إرغام الكثير من الموظفين على التوقيع على تعهّد يقول إنّ لا علاقة لهم بهذه الحركة.

لكن تبقى فعالية الموجة الحالية من المقاطعة غير واضحة اليوم، حيث أصبح الاقتصاد الإسرائيلي أقل عرضة للمقاطعة بعدما تحركت سلة الصادرات الإسرائيلية على مدار السنوات الماضية نحو السلع عالية التقنية والمنتجات الصيدلانية وغيرها.

وتشير نظرة على بيانات التجارة الدولية إلى أن الصادرات الإسرائيلية تطورت لتصبح أكثر تميزاً وذات جودة أعلى، ما يعني أنه لا يمكن للمستهلكين استبدال المنتجات الإسرائيلية بهذه السهولة. وهذا يعني أن النجاح في مقاطعة الصادرات الإسرائيلية سيكون أصعب بكثير اليوم لكنه ليس مستحيلاً.

وقدر تقرير صادر عن مؤسسة "راند" للأبحاث في مجال السياسات العالمية عام 2015، أن حركة المقاطعة وغيرها من العقوبات المالية والتجارية ذات الصلة، أدت إلى انخفاض تراكمي بنحو 15 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل على مدى عشر سنوات. وهو ما يمثل حوالي 3% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي الحالي لدولة الاحتلال، الذي يزيد عن 500 مليار دولار مع انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.4%.

ويشير محللون إلى أنه منذ اتفاقيات أوسلو والسلام مع مصر والأردن، خفّ تأثير هذه المقاطعة على إسرائيل. لكن في ظل التعاطف الكبير مع الفلسطينيين الذين يواجهون عدواناً إسرائيلياً إجرامياً، يرى محلّلون أن هذا الوضع يعدّ من البيئات التي تنجح فيها المقاطعة لا سيما عندما تكون منظّمة بشكل جيد ومدمجة في مجتمعات تهتم بها.

المساهمون