"لغز الفقر في الشرق الأوسط" في المركز العربي للأبحاث

15 أكتوبر 2022
ستيف هايدمان خلال محاضرته اليوم (العربي الجديد)
+ الخط -

مع الإقرار دائماً بأن البيانات الاقتصادية القادمة من أنظمة مستبدة مشكوك في دقتها، فإن معدلات الفقر الشديد في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا طوال العقود الأربعة الماضية، وفق بحوث ميدانية مقارنة، هي أقل من مثيلاتها في دول حول العالم تتشابه معها من حيث الموارد والمؤشرات الاجتماعية.. منذ سنوات وهذا الأمر يشغل ستيف هايدمان، الأستاذ في شؤون الشرق الأوسط في كلية "سميث" المختصة في دراسات المقارنة بالشرق الأوسط وأنظمة الحكم الاستبدادية ومنظمات المجتمع المدني والإصلاحات الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية.

وخلال محاضرته اليوم السبت، "لغز الفقر في الشرق الأوسط: سياسة التضامن واقتصاده"، في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، طرق أبواب هذا اللغز في محاولة لفهم مصادر المرونة الاجتماعية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، لاستكشاف الآليات الاجتماعية القائمة على التضامن.

وهو بوصفه "لغزاً" لم يُحلّ، بل ويواجه الباحثين مثيراً أسئلة في مجالات مختلفة ليس فقط في العلوم السياسية والاقتصاد، بل في حقلي الأنثروبولوجيا والاجتماع، وهو لغز له تداعيات مهمة لمن يعملون في مجال التنمية والذين يواجهون كل يوم تحديات ما يمكن عمله لمعالجة آثار الفقر.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

فقر مدقع

يلاحظ المحاضر أن مسار المنطقة عكَس على مدى العقد الماضي الغضب والإحباط المتزايد بين الجماهير (منذ ثورات الربيع العربي) في المجتمعات التي مزقتها الضغوط الاقتصادية والهشاشة الاقتصادية المتفاقمة. من ناحية أخرى، تتعايش هذه المظالم الاقتصادية واسعة النطاق مع أدنى مستويات الفقر المدقع بين المناطق النامية. هذا الفقر المدقع بحسب تعريفه منذ 2015 هو أن يكون دخلك اليومي أقل من 1.90 دولار.

يتساءل هنا عن العوامل في منطقة لا تبلي بلاء حسناً على الصعيد الاقتصادي، ولكن على الأمد البعيد، تصبح النتائج جيدة بالنسبة لهبوط معدلات الفقر الشديد.

من ذلك أولاً: المستويات المرتفعة للإنفاق العام منذ الستينيات حتى حدود العام 2000، بما أثر على إرث الفقر، حتى لو تراجع الأمر إبان العقد الذي سبق الثورات العربية، وكذلك السياسات الاجتماعية وخصوصاً الإعانات الحكومية للغذاء والوقود، التي تتعرض لانتقادات لجهة نزاهتها، إلا أنها أمنت شبكة حماية للأشد فقراً.

العلاقة بين التحويلات في مواجهة الفقر الشديد غير واضحة. فقد زادت معدلات الفقر المدقع في العقد الأول من الألفية الجديد في الوقت نفسه زادت التحويلات المالية بشكل كبير.

ثانياً: التحويلات المالية التي من شأنها تخفيف الفقر المدقع، وغالباً ما تتخطى المستويات الحكومية وتصل مباشرة إلى الأسر.

ومع ذلك، يرى هايدمان أن العلاقة بين التحويلات في مواجهة الفقر الشديد غير واضحة. فقد زادت معدلات الفقر المدقع في العقد الأول من الألفية الجديد، في الوقت الذي زادت فيه التحويلات المالية بشكل كبير.

بيانات قليلة

يلجأ المحاضر عنده معاينته أشكال التضامن للقول إن البيانات قليلة بشأن آليات التضامن، بحيث يسمح لنا بدراسة هذه البنى والتركيبات الاجتماعية التي تقف وراءه.

لكنه رغم ذلك تحدث عن دلائل تسد هذه الثغرة المعرفية، مشيراً إلى دراسات سابقة حول الاقتصاد غير النظامي، الذي يعزز قدرة الفقراء على العيش من دون مساعدة الدولة ضمن مجتمع مبني على الثقة.

هذه الآليات تبرز في حالات متعددة في الأحياء السكنية، والمصانع التي تعمل على تأمين الدعم المالي للناس. لا يجرى الحديث هنا عن رأسمال صغير، بل عن عمل خارج نطاق الدولة.

وهناك على المستوى المجتمعي جماعات تتعاضد على أساس الهوية، يمكن أن تؤدي إلى تشكيل شبكات مبنية على الثقة، على سبيل المثال المنطقة الجغرافية والمعتقدات الدينية والطبقة الاجتماعية والعلاقات الأسرية.

وأكثر ما يميز هذه الشبكات دعمها الناس المحتاجين في أوقات الشدة، ومن الأمثلة التي ساقها هايدمان الجمعيات الائتمانية في الأحياء، وغالباً تديرها النساء اللواتي يجمعن المساهمات من الأفراد من دون فائدة، ويتناوب الجميع على الاستفادة منها. وبالطبع لا يوجد جرد كامل لها، لكنّ التقديرات الرسمية تتحدث عن مئات الآلاف في الشرق الأوسط يشاركون في هذه الجمعيات.

كما أن هذا السلوك الاقتصادي -كما يوضح- ليس قصراً على الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، فالبيانات المقارنة تفيد بأن هناك في المكسيك 30% من الشعب يلجؤون إليه، وفي منطقتنا نموذج الأردن الذي يشارك حوالي نصف سكانه في هذه القروض الاجتماعية.

لدى معاينة ما فعلته النزاعات ثم جائحة كوفيد، فإننا نتحدث عن ظاهرات تضعف اللحمة الاجتماعية، وعندما تتراجع هذه العلاقات يدعونا المحاضر إلى عدم الاستغراب أن أكثر المتأثرين هم من يعتمدون على شبكات التعاضد الاجتماعي.

وبيّن المحاضر أن أكثر البيانات التي تصل إلى الباحثين قادمة من مصر، والتي فيها ما يناهز أربعة آلاف جمعية زكاة قدمت مساعدات لأكثر من عشرين مليوناً، كما أن هناك شبكات اجتماعية غير مبنية على الدين يستفيد منها 5 ملايين شخص، و832 جمعية في القاهرة قدمت في تسعينيات القرن الماضي مساعدات للقادمين من مناطق نائية إلى الحضرية، وثمة دراسة سبقتها في طهران تفيد بأن ثلث القادمين إليها من ذات المناطق دُعموا من جمعيات مماثلة.

ولدى معاينة ما فعلته النزاعات ثم جائحة كوفيد، فإننا نتحدث عن ظاهرات تضعف اللحمة الاجتماعية، وعندما تتراجع هذه العلاقات، يدعونا المحاضر إلى عدم الاستغراب من أن أكثر المتأثرين هم من يعتمدون على شبكات التعاضد الاجتماعي.

وخلص هايدمان، أخيراً، إلى أن الدول لديها دور تلعبه، لا سيما من خلال تنشيط الرعاية الاجتماعية والإنفاق العام، وتوسيع برامج التحويلات النقدية، والأشكال الأخرى من السياسات العامة ذات التدخل المنخفض والتي تحترم رغبة المواطنين في الاستقلال والكرامة. ومن المرجح أن يكون البديل عن مثل هذه التدابير هو زيادة مطردة أخرى في الفقر المدقع وزيادة تآكل المصادر الحاسمة للصمود الاجتماعي.

المساهمون