"السكوار" في الجزائر... بورصة موازية للعملة أرقت الحكومات المتعاقبة

23 سبتمبر 2021
هشاشة النظام النقدي زادت من التعاملات الموازية (فرانس برس)
+ الخط -

على جوانب ساحة بورسعيد أو ما يعرف بـ"السكوار" الواقعة على بعد أمتار من مجلس الأمة (الغرفة الثانية للبرلمان)، وسط العاصمة الجزائرية، يصطف عشرات الشباب حاملين مختلف أنواع العملة الصعبة يستعرضون أسعارها في مداولات نشطة مع زائري المكان كأنك في قاعة بورصة تعج بالسماسرة ومنفذي الصفقات.

اتخذت السوق السوداء للعملة زخماً كبيراً في الآونة الأخيرة بينما يواجه اقتصاد الدولة الغنية بثروات النفط والغاز صعوبات لافتة، تزيد يوما تلو الآخر من الضغوط على العملة الوطنية التي استسلمت لتراجعات متتالية في السنوات الأخيرة.

لم تتمكن الجزائر من بناء سوق نظامية للعملات منذ مطلع التسعينيات، لتتحول الساحة "اللغز" إلى الوجهة الأولى للجزائريين وحتى الأجانب المقيمين، لشراء أو بيع العملات

ولم تتمكن الجزائر من بناء سوق نظامية للعملات منذ مطلع التسعينيات، لتتحول الساحة "اللغز" إلى الوجهة الأولى للجزائريين وحتى الأجانب المقيمين، لشراء أو بيع العملات، وسط أسئلة طرحت ولا تزال تُطرح حول الساحة ومن يمولها والأهم من يحميها من يد الدولة الجزائرية التي لم تطاولها يوما.

تختلف القصص والروايات حول بدايات وميلاد "بورصة السكوار"، إلا أنها تتقاطع كلها في نقطة واحدة، وهي الأزمة الإقتصادية التي عاشتها البلاد سنة 1986، وما خلفته من صدمات على العملة الوطنية (الدينار)، ما دفع السلطات في مطلع 1990 إلى تعديل قانون القرض والنقد، لمنع الدينار من التحويل ومنع إخراجه من البلاد مع تسقيف حجم ما يتم بيعه وإخراجه من العملات من المؤسسات المصرفية، ما أدى بالجزائري إلى البحث عن ملاذ آخر للحصول على العملات تحسباً للسفر نحو أوروبا بشكل خاص.

توجهت "العربي الجديد" إلى المباني المطلة على الساحة، حيث روى العم عز الدين، وهو دبلوماسي متقاعد في العقد الثامن، عن الأيام الأولى لميلاد "السكوار"، حيث قال إن البداية كانت بالمقاهي والمحلات المحاذية للساحة، فكان تجار "الشنطة" يعرضون العملة للبيع أو الشراء بعد نجاحهم في إدخالها للجزائر عن طريق منح رشاوى للجمارك وشرطة الحدود، والشيء نفسه بالنسبة لإخراج الأموال، مع وضع هامش ربح لا يزيد عن 10% عن السعر الرسمي.

وتابع العم عز الدين، الذي تطل شرفة شقته على ساحة السكوار: "مع مرور الأشهر بدأت الحركة تتزايد، والعرض والطلب يتضاعف، وخاصة أن البنوك كانت لا تبيع العملات الأجنبية إلا بما يعادل 6 آلاف دينار آنذاك، وفي الحقيقة أعتقد أن دخول الجزائر في نفق العنف وسنوات الدم أثناء العشرية السوداء (1990-2000)، ساعد على ظهور ساحة السكوار وانتعاشها، لأن الدولة لم تكن تضع القضاء عليها ضمن أولوياتها، بل كان المهم آنذاك هو القضاء على الإرهاب المتطرف الذين كان الهدف الأول للدولة".

دخلت "بورصة السكوار" مرحلة الانتعاش الحقيقي مع مطلع 2000، مستفيدة من البحبوحة المالية التي خلفها ارتفاع أسعار النفط، وتوجه الجزائر نحو اقتصاد السوق، وتحرير الاستيراد، حيث زاد الطلب على العملات

وبعد الميلاد العسير، دخلت "بورصة السكوار" مرحلة الانتعاش الحقيقي مع مطلع سنة 2000، مستفيدة من البحبوحة المالية التي خلفها ارتفاع أسعار النفط، وتوجه الجزائر نحو اقتصاد السوق، وتحرير الاستيراد، حيث زاد الطلب على العملات.

ويؤكد عبد العالي دحماني، وهو مالك مقهى على الجانب الأيسر من الساحة، أن "خروج باعة العملات من المحلات والمقاهي إلى الشارع وظهور شبكات منظمة يعود إلى سنتي 2000 و2001 بعدما خَلَف تجار الشنطة المستوردين والمصدرين في تمويل عمليات الصرف الموازية، وباتوا يتحكمون في الأسعار، واليوم أصبحت بورصة تتم فيها معاملات تصل إلى ملايين من الدولارات واليورو".

التمويل الخفي

ولعل أكبر علامات الاستفهام المطروحة حول "سوق السكوار" لبيع وشراء العملات الأجنبية، تتعلق بتمويل الباعة بالعملة الوطنية وحتى الأجنبية، في ظل صرامة المنظومة البنكية والرقابة المفروضة على حركة رؤوس الأموال من الجزائر وإليها، وهنا تختلف المصادر باختلاف الباعة.

وتشغل السوق عشرات الشباب وسط العاصمة، ومن هناك ينطلق يومياً سعر الصرف لمختلف العملات نحو بقية المحافظات بطريقة عمل الأنظمة النقدية الرسمية نفسها، لكن الكثير من هؤلاء الشباب لا يملك أدنى فكرة عن مصدر تلك الأموال التي يقدرها بعض الخبراء بـ10 مليارات دولار.

يقول الشاب عبد القادر، وهو أحد باعة العملة، إن "مصادر التمويل متعددة، مختلف الباعة وراءهم مصدرون ومستوردون وحتى إطارات (أصحاب نفوذ) في الدولة، كل حسب الشبكة التي ينتمي إليها. هناك نظام خفي وراء تسيير سوق السكوار، أحيانا يتم إغراقها بالعملات لخفض الأسعار، وأحيانا يتم سحب المعروض من العملات لرفع الأسعار والضغط على الحكومة".

يراوح الفارق بين السعر الرسمي للعملات وسعر "بورصة السكوار" ما بين 60 و80 دينارا، ما يجعلها ملاذا مربحاً لكل من يريد بيع العملة، خاصة الجالية الجزائرية خلال العطلات الصيفية

ويضيف عبد القادر، متحدثاً لـ"العربي الجديد": "رأيت هنا سيارات وزراء وإطارات (قيادات) في الجيش تقف لشراء أو بيع العملة الصعبة، كما رأيت رجال أعمال نافذين يقومون أحياناً بدوريات.. الأكيد كل بائع يخفي من يموله، هذا هو الأساس".

وعن طريقة تحديد أسعار بيع العملات وعمولة البائع، يوضح الشاب رضوان، وهو أحد الباعة، أن "البائع يأخذ نسبة يتفق عليها مع الممول لا تتجاوز 10% من الأرباح، علما أن الشاب يقف لأكثر من 10 ساعات يومياً، أما طريقة احتساب السعر فهي تعتمد على سعر الصرف الرسمي مع إضافة هامش ربح يحتسب على أساس رسوم جمركية تتعلق بعمليات التصدير والاستيراد، لضمان هامش ربح".

ويراوح الفارق بين سعر الصرف الرسمي للعملات وسعر "بورصة السكوار" ما بين 60 و80 دينارا، ما يجعلها ملاذا مربحاً لكل من يريد بيع العملة، خاصة الجالية الجزائرية خلال العطلات الصيفية.

ويكشف البائع نفسه، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "من بين الحيل التي يقوم بها ممولو السوق، مثلا أخذ قرض بنكي لتمويل عملية استيراد، كما فعل أحد رجال الأعمال المسجونين حالياً، والذي ضخ قرابة مليوني يورو في يوم واحد بعدما أخذ قرضا لتمويل عمليات استيراد هياكل سيارات، كما يضخم بعض المستوردين فواتير الاستيراد لشراء العملة بسعر منخفض من البنك المركزي ويحولون الأموال للسوق".

السكوار والنظام الجزائري

ملف "السكوار" سياسي واقتصادي في الوقت ذاته، فبقدر ما عكس هشاشة الاقتصاد النقدي الجزائري لعقود طويلة، فقد ارتبط بممارسات منظومة سياسية بأكملها، وفق خبراء اقتصاد.

لذلك كان الرهان في الشارع الجزائري على أن ينتهي "تسلط السكوار" على السوق المالية بسقوط أباطرة المال في نظام الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، إلا أن ذلك لم يحدث كما كان متوقعا، الأمر الذي أرجعوه إلى الضغوط المالية المتواصلة التي تواجهها الدولة.

يقول الخبير المالي العربي الغويني: "يبدو أن هناك تعايشا بين السلطة الرسمية والسوق الموازية، ولا أحد يريد أن يضر الآخر. الحكومة تعي جيدا أنها لا تستطيع غلق سوق السكوار، بدليل المحاولات القليلة التي انتهت باشتباكات مع قوات الأمن والندرة في العملة الصعبة".

المساهمون