القدس، ووجدة، والقاهرة، ثلاث مدن عربية عريقة، تواجه لافتات التوجيه إليها كل داخل إلى "المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء" في دورته الرابعة والعشرين التي تختتم فعالياتها بعد غدٍ الأحد، قبل أن يكتشف أنها أسماء القاعات الرئيسية الثلاث، التي تستضيف فعاليات البرنامج الثقافي الذي يقام على هامش المعرض.
واختار المنظّمون العواصم الثلاث تفاعلاً مع ثلاثة أحداث/ مناسبات، تميّز السنة الجديدة. فـالقدس المحتلة جاء اختيارها تفاعلاً مع التطوّرات السياسية الأخيرة، و"لإعادة التأكيد على قدسيتها وعلى خصوصيتها العربية، باعتبارها قبلة تاريخية لإشاعة قيم السلم وتكامل الديانات، تحت السيادة الكاملة لدولة فلسطين الحرة المستقلة"، كما حاول تبرير اختيارها تقديمُ ندوة "هوية القدس ومركزها الديني والحضاري" يوم الجمعة الماضي. أما وَجدة فاختيرت باعتبارها "عاصمة الثقافة العربية" برسم سنة 2018، فيما كان اختيار القاهرة لكون مصر ضيفة شرف هذه النسخة من المعرض.
من جهة أخرى هيمنت المؤسسات المغربية الرسمية، وعدد من الأجنحة المخصّصة لدول بعينها (مصر، ودول عربية وأفريقية وأجنبية)، وناشرو "كتب" الأطفال والكتب الدينية على ما يقارب ثلثي مساحة العرض، فيما حُشرت باقي دور النشر في الثلث المتبقي. كما أن تقاطع تواريخ تنظيم معرضي القاهرة (انتهى في 10 فبراير/ شباط) والدار البيضاء (بدأ في 8 من الشهر الجاري)، خلق نوعاً من الإرباك لدى عدد من الناشرين، الذين تأخر وصول عدد من كتبهم.
ذاكرة الكتاب وأدباء قادمون
قسّم البرنامج الثقافي هذا العام على عدد من الثيمات الرئيسية، وأفرد لكل ثيمة عدد من النشاطات الموزّعة على أيام المعرض، من بينها: "ذاكرة" المخصّصة لكتاب ومثقفين رحلوا عن عالمنا، والتي استضافت أسماء من قبيل عبد الكريم غلّاب، ومحمد الميموني، وخالد مشبال، ومحمد حسن الجندي، وزهرة زيراوي. مرورا بركنين يهتمّان بالجيل الجديد في المشهد الثقافي المغربي: "أدباء قادمون"، و"ثنائيات: لقاء بين كاتبين من جيلين مختلفين"، ثم "ليالي الشعر"، و"أصوات أميركا اللاتينية"، وغيرها.
في ذات السياق، شهدت أمسية يوم الأحد الماضي بالدار البيضاء، حفل تسليم جوائز "ابن بطوطة لأدب الرحلة 2017 – 2018" التي كانت قد أعلنت نتائجها قبل فترة قصيرة، وهي جائزة يمنحها "المركز العربي للأدب الجغرافي - ارتياد الآفاق". وقد شهدت نسخة هذه السنة فوز سبعة باحثين مغاربة: عز المغرب معنين، وأحمد بوغلا، وعبد النبي ذاكر، والمهدي الغالي، ومحمد الغيغائي الوركي، وعبد الرحيم حزل، ورشيد اركيلة.
عن ذلك قال الشاعر نوري الجراح، مدير المركز: "اللافت هذا العام؛ رسوخ قدم المغاربة في أرض الكتابة والتحقيق والبحث في أدب الرحلة"، مضيفاً أنه أمر ينبّه إلى "الاستجابة الاستثنائية التي عبّرت عنها الأكاديميا المغربية في رفد مكتبة التحقيق، والبحث في أدب الرحلة".
"أجنحة" مصرية
تتصدّر مصر لائحة دور النشر الحاضرة بحوالي 109 عارضين، في مشهد يضمّ 700 عارض ينتمون إلى 45 دولة، من المغرب والبلدان العربية وأفريقيا والعالم، كما أشار وزير الثقافة المغربي محمد الأعرج.
دور النشر المصرية، شهدت إقبالاً بدا عالياً عند بعضها، إذ نفدت أغلب نسخ الترجمات الجديدة التي أصدرها "المركز القومي للترجمة" منذ الأيام الثلاثة الأولى. وبدا غريباً بعض الشيء غياب دور نشر مصرية ناشئة لها حضور قوي في وسائط التواصل الاجتماعي بعد "الربيع العربي"، كما أن كثيراً من إصداراتها تتسلق قوائم "الأكثر مبيعاً"، وهو أمر قد يطرح تساؤلات من قبيل نجاحها في التحليق في سماء المشرق وفي مصر بالخصوص، وفشلها في تسويق ما تنتجه من أدب "خفيف" للقارئ المغربي.
كما تحضر مصر في البرنامج الثقافي بكثافة؛ فعلى الصعيد الأدبي في شقه الروائي نظّم المعرض ندوات ولقاءات حملت عناوين: "أثر الروائي الراحل جمال الغيطاني في الرواية العربية"، و"خصائص التجربة الروائية المصرية والمغربية"، و"أبحاث في القصة القصيرة"، شارك فيها أنور مغيث عن "المركز القومي للترجمة"، وطارق الطاهر من "أخبار الأدب"، والقاص سعيد الكفراوي، والروائيان هالة البدري وسعيد نوح وآخرون.
كما أقيمت أمسيات شعرية بمشاركة شعراء مصريين من قبيل: زين العابدين فؤاد، وفريد أبو سعدة، وسامح محجوب، فيما من المرتقب أن تحيي فرقة "التنورة" للرقص الشعبي حفلاً تراثياً مصرياً يوم غدٍ السبت عند السادسة مساءً في "مقر جهة الدار البيضاء - سطات".
واقع التعدّدية اللغوية
قبل أيام قليلة من بداية فعاليات المعرض، أصدرت "مؤسسة الملك عبد العزيز للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية" في الدار البيضاء، تقريراً للسنة الثالثة على التوالي تحت عنوان: "النشر والكتاب في المغرب.. التقرير السنوي عن وضعية النشر والكتاب في مجالات الأدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية 2016/2017".
وبعيداً عن أن تقريراً مثل هذا يصدر عن مؤسسة خاصة غير ربحية، بدل أن يكون عملاً رسمياً للوزارة الوصيّة، يمكننا ملاحظة عدد من الخلاصات اللافتة التي أشار إليها، والتي قد لا تطابق المشهد الثقافي المغربي كما يبدو من زاوية أقرب، كما يتيح ذلك معرض الكتاب.
يقول التقرير إن نسبة الكتب العربية المنشورة خلال السنة تناهز 80% (2405 كتاب)، فيما لم تحظَ الفرنسية سوى بنسبة تناهز 16% (427 كتاب)، غير أن المتتبع للمشهد الثقافي المغربي، يعرف أن نسبة القراءة في الأوساط الفرنكوفونية عالية مقارنة بمثيلتها العربية، كما أن الأنشطة والفعاليات الثقافية التي تتوزّع على مدار السنة، تهيمن عليها مؤسسات فرنكفونية بشكل كبير، كما يتّضح من النشاط المكثّف لـ "المعهد الفرنسي" في الرباط والدار البيضاء وعدد من المدن الأخرى.
على الرغم من ذلك بدا البرنامج الثقافي المرافق لفعاليات المعرض متوازناً؛ إذ أفرد مساحة للغتين معاً مع تفوّق نسبي للفعاليات العربية، ومع حضورٍ موازٍ للأمازيغية.